اخبار مصر
موقع كل يوم -صدى البلد
نشر بتاريخ: ٦ أب ٢٠٢٥
نحن نتفاوض كل يوم، وإن لم ننتبه لذلك.
حين تطلب أمّ من صغيرها أن ينام باكرًا، أو حين يحاول موظف إقناع زميله بخطة عمل، أو حين نسرد فكرة ونرغب أن تجد لها قلوبًا تؤمن بها… كل هذه لحظات تفاوض خفيّة، نمارسها بالفطرة، ونعيشها دون أن نمنحها اسمها الحقيقي.
ومع ذلك، تبقى مهارة التفاوض غائبة عن مناهجنا الدراسية، وكأنها ترف لا نحتاجه، بينما هي في الواقع واحدة من أهم أدوات الحياة، التي يحتاجها الإنسان في بيته، في عمله، في الشارع، ومع ذاته.
لماذا ينبغي أن نُعلّم أبناءنا التفاوض؟
التفاوض ليس لعبة النخبة، ولا حكرًا على غرف الاجتماعات المغلقة أو المنصات السياسية.
إنه مهارة إنسانية راقية، تُعلّم الطفل كيف يكون إنسانًا: كيف يتكلم باحترام، يستمع بإنصات، ويبحث عن حلول لا تقصي أحدًا.
حين نغرس التفاوض في قلب التعليم، فإننا نزرع في طلابنا قيمًا نبيلة، مثل:
حسن الإصغاء وتقدير وجهات النظر المختلفة، التعبير عن الذات بثقة واتزان. حلّ النزاعات بالحكمة لا بالغضب، وبناء علاقات قائمة على التفاهم لا التسلط.
إن الطفل الذي يتعلّم كيف يُفاوض، يتعلّم في الوقت ذاته كيف يكون شريكًا في الحوار، لا مجرد متلقٍّ للأوامر. يصبح قادرًا على مواجهة تحديات الحياة بعقلٍ متزن وروحٍ مرنة.
التفاوض أداة تمكين للشباب والنساء:
في زمن تسارعت فيه الفرص، واشتدّت فيه المنافسة، لم يعد كافيًا أن يحمل الشاب شهادته.
فهو بحاجة إلى ما هو أعمق: أن يعرف كيف يُقنع، كيف يُفاوض على فكرة أو مشروع أو فرصة، وكيف يعبّر عن رأيه بلباقة وقوة. الشاب الماهر في التفاوض لا ينتظر من يمنحه الفرص، بل يصنعها بيديه، ويبني طريقه بثقة. أما المرأة، فإن فن التفاوض هو درعها وصوتها.
حين تتقنه، تُصبح قادرة على أن تقول 'لا' حين يجب أن تُقال، وأن تطالب بحقوقها دون خوف، وأن تشارك في مواقع القرار من موقع الوعي والندية.
المرأة التي تفاوض، تُسهم في بناء مجتمع عادل، متوازن، يستمع لصوتها لا لأنها تصرخ، بل لأنها تُحسن التعبير.
ولأن التفاوض ليس حكرًا على مجال دون آخر، فقد آن الأوان أن يصبح جزءًا أصيلًا من منظومة التعليم الجامعي، لا سيما في زمن تتداخل فيه التخصصات وتتشابك فيه الأدوار.
سواء كان الطالب يدرس الطب أو الهندسة، القانون أو الفنون، فإن امتلاك مهارات التفاوض يمنحه أداة لا تقدّر بثمن: أداة للتواصل، للتأثير، ولصنع الفارق في مجاله وفي مجتمعه.
إن إدراج التفاوض ضمن المهارات الأساسية في الجامعات، لا يعني فقط إعداد خريجين أكفاء، بل إعداد مواطنين قادرين على بناء مستقبل يقوم على الحوار، لا على الصراع… على الفهم، لا على الفرض.
خلاصة القول: التفاوض ليس مهارة كمالية، بل ضرورة حياتية.
إذا كنا نرغب أن نصنع جيلًا قادرًا على قيادة نفسه ومجتمعه، فعلينا أن نُعلّمه كيف يُفاوض: لا من الكتب فقط، بل من خلال الممارسة، والحوار، وتمثيل الأدوار، والتجربة التي تُكسبه الثقة.
فمن يتقن فن التفاوض، يتقن فن الحياة، وهو الذي يُصغي جيدًا، ويتحدث بذكاء، ويصنع من كل خلاف فرصة، ومن كل حوار جسرًا.
فالعقل الذي يُحسن التفاوض، هو عقل لا يصنع النجاح لنفسه فحسب، بل يزرعه حيثما حلّ. وأمّة تعرف كيف تفاوض، هي أمة تعرف كيف تحيا… بكرامة، بحكمة، وبقوة لا تُرى إلا في العقول الناضجة والقلوب الواعية؟