حديث الانتخابات في مصر... الهندسة تعلو على الاقتراع

نقاشات شعبية عن 'الهندسة الانتخابية' وأحياناً تتمدد لتشمل 'الهندسة السياسية' برمتها وتدوينة السيسي تفتح الشهية إن لم يكن للتغيير والتصحيح فمن باب حب الاستطلاع

لم تكد تمر دقائق معدودة على ظهور تدوينة الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي عن علمه بـ'الأحداث' التي وقعت في دوائر انتخابية، وطلبه من الهيئة الوطنية للانتخابات التدقيق في هذه 'الأحداث'، والطعون المقدمة في شأنها، واتخاذ القرارات المناسبة القادرة على الكشف بأمانة عن 'إرادة الناخبين الحقيقية'، مع تلميحه بإمكان إلغاء نتائج أو إعادة إجراء الانتخابات في دائرة أو أكثر حتى تفجرت ينابيع سياسية، وقضايا جنائية، وطموحات حزبية، وتكهنات مستقبلية، ومطالبات اقتصادية، وشطحات فكرية، والأكثر إثارة من كل ما سبق تناقضات فردية وصل بعضها إلى درجة اللا معقول.

كتاب وإعلاميون متحولون من عوالم الثقافة والصحافة إلى دهاليز السياسة وكواليسها، وكذلك كوابيسها، سارعوا بالقفز من أقصى يمين الإشادة بنزاهة الانتخابات وجودة الأجواء وشفافية الإجراءات وروعة 'العرس الانتخابي' إلى أقصى يسار 'عظمة على عظمة يا ريس'، 'هذا ما كنا نأمله يا ريس'، 'نحمد الله كثيراً على نعمة الرئيس الحكيم القادرة على رؤية العوار ومطاردة الأشرار'.

الطريف أن ذاكرة السوشيال ميديا وطبيعة الأثير العنكبوتي القادرتين على حفظ الأقوال وحمايتها من الفناء لم تشغلا بال القافزين من يمين الإشادة بالانتخابات إلى يسار الإشادة بتدوينة السيسي، وهي القفزة التي لم تستغرق سوى ساعات معدودة فصلت بين مجاهرتهم بروعة 'العرس الانتخابي' وصدقيته، وهتافهم برداءة 'العرس' وخطورة أجوائه الفاسدة وآثاره المدمرة. تدوينة السيسي حتى لو لم تفض إلى هزة حقيقية للأجواء السياسية وصحوة فعلية في هندسة إدارة البلاد وشؤون العباد، فإنها نجحت في كشف الكثير أمام أعين المصريين.

بعيداً من 'العرس الانتخابي' نفسه موضوع التدوينة، تفجرت أنشطة وقضايا وتصريحات يستبعد خبثاء فرضية الصدفة فيها. صور وتصريحات وأخبار عن نقل رئيس أحد الأحياء الشعبية المتخمة بالمشكلات المعيشية وتعقيدات عقود من البناء العشوائي والتمدد السكاني الرهيب وما ينجم عنهما من معضلات قانوينة وتنظيمية وخدمية وغيرها، مكتبه إلى الشارع. صحيح أن هناك من أتخم صفحات السوشيال ميديا بإشادات برئيس الحي، وكيف أنه منذ تولى منصبه وهو يوجد بين الناس، ويستمع إلى مشكلاتهم، ويعمل على حلها، إلا أن التوقيت والكثافة، مع الإفراط في قيام مواطنين عاديين باستعراض سيرة رئيس الحي المتفاني عبر تعليقات على منصات السوشيال ميديا أيقظ مواطن التشكك لدى بعضهم، وربط هذا النشاط المفاجئ والشعبية الطاغية المهندسة عنكبوتياً بشعور عام يلف الأجواء بأن السيسي ربما مقبل على فتح صفحة جديدة، أو خوض مرحلة مرتقبة لتصحيح أوضاع وضبط الإيقاع.

إيقاع رئيس الحي، الذي قال في تصريحات صحافية بأن 'نقل المكتب إلى الشارع يساعد في سرعة حل المشكلات ورصد القصور ميدانياً'، انتقل إلى عديد من المسؤولين خلال ساعات معدودة. إذ لم ينقل كل المسؤولين مكاتبهم إلى الشوارع، لكن المتابع الأحوال والراصد للأوضاع يمكنه تقفي ملامح صحوة ويقظة وعزيمة وعمل واجتهاد بصورة واضحة وصريحة ومكثفة.

في الوقت نفسه، أعلنت وزارة الزراعة واستصلاح الأراضي قضية فساد كبرى وإهدار للمال العام ومخالفات مالية وإدارية جسيمة داخل 'الجمعية العامة لمنتجي الأرز ومحاصيل الحبوب'. ملف الإهدار و'التجاوزات الجسيمة' تمت إحالته على النيابة العامة، والمثير إنه جرى إعلان تفاصيل الملف خلال الساعات الماضية، الذي احتوى على تصرف في مبيدات مخصصة للمزارعين، والتعاقد مع شركة مقاولات وأعمال هندسية غير مرخص لها بتداول المبيدات الزراعية، وهو ما نتج منه حرمان المزارعين المستحقين من الحصول على المبيد، وإهدار مبالغ كبيرة من المال العام.

الكلمات المفتاحية التي تدغدغ مشاعر المصريين وتثير شهيتهم لمزيد والواردة في هذه القضية الكبرى كثيرة. فساد، ومخالفات، ومبيدات، ومحاصيل، وحرمان المزارعين، وإهدار المال العام، وتزامن جميعها مع 'العرس الانتخابي'، الذي نجمت عنه تدوينة السيسي 'الرمزية' والمفاجئة.

مفاجأة السيسي تشغل بال المصريين، وتفتح آفاق التكهن بما قد تعنيه في سياقات أوسع. الكاتب سامح فوزي أشار في مقالة عنوانها 'مفاجأة الرئيس' (نوفمبر 2025) إلى أن السيسي فاجأ مؤسسات الدولة، قبل أن يفاجئ المواطنين أكثر من مرة. وألقى ضوءاً ذكياً على بعض هذه المفاجآت، وعلى ردود فعل شخصيات عامة عليها، وهي الردود التي شهدت انقلاباً رهيباً.

على سبيل المثال، حين أصدر السيسي في عام 2021 قرار عدم مد حالة الطوارئ المفروضة على البلاد على مدار سنوات، من منطلق أن الدولة لم تعد بحاجة إلى فرض حالة الطوارئ بعد النجاحات الكبرى التي أحرزتها في القضاء على الإرهاب، سارع نواب إلى الإشادة بالقرار على رغم أنهم أنفسهم من كانوا في طليعة المطالبين بالتمديد.

مثال آخر تمثل في توجيه الرئيس في عام 2018 بإعادة النظر في قانون الجمعيات الأهلية في ضوء الانتقادات التي طاولت القانون الذي صدر في عام 2017، وهو ما أدى إلى صدور القانون المعمول به حالياً في عام 2019، شهد إشادة رهيبة من أشخاص كانوا يدافعون عن القانون الآخر دفاعاً مريراً، وتكرر الأمر مع قانون الإجراءات الجنائية قبل أسابيع.

ثم حلت مفاجأة 'العيار الثقيل'، كما وصفها فوزي في مفاجئته الدولة قبل المواطنين بما كتبه عن الانتخابات والتجاوزات. من أشادوا بالعملية الانتخابية ونفوا حدوث أي تجاوزات، وهذه المرة هم أطراف العملية السياسية، والأحزاب، ودوائر التأثير والنفوذ، هم أنفسهم من ثمنوا تدوينة السيسي.

وألمح الكاتب إلى أوجه تغيير عدة حدثت في المجتمع المصري نتيجة توجهات رئاسية صريحة أو ضمنية، ولم تعبر عنها مؤسسات الدولة، لكنها نفذتها، وهو ما يعني أن الثقافة السياسية المصرية الحديثة هي نفسها القديمة والقائمة على أن الرئيس هو حجر الزاوية في النظام السياسي، 'وهو ثقل سياسي تاريخي يجعل مؤسسات الدولة تسير في ظل توجهات الرئاسة'، مؤكداً أن هذا ما فهمه.

تحولت 'هذا ما فهمته من تدوينة الرئيس' إلى الجملة الأكثر تداولاً بين مثقفين وكتاب ومواطنين مهتمين بالشأن المصري وتفاصيل الحياة التي بات كثيرون يرون إنها قابلة للتغيير للأفضل 'مع وقف التنفيذ'. وبين من يرون أن وقت تصحيح المسار قد حان، ومن كاد يفقد الأمل في التغيير، وفريق آخر يثني على تدوينة السيسي، لكن في الوقت نفسه لا يؤمن أنها ستؤدي إلى ما هو أكثر بكثير من إعادة انتخابات معيبة في بعض الدوائر أو حتى كلها، تهيمن حالة 'ما فهمته من تدوينة الرئيس'.

هي من المرات القليلة جداً، إن لم تكن النادرة في العقد الأخير التي يهتم فيها الشارع وسكان الطوابق الأرضية بما يجري في الطوابق المرتفعة. انتخابات وأصوات وأحزاب ومجلس نواب غير محسوس الأثر ومجلس شيوخ لا يعرفه إلا قليلون وقرارات اقتصادية وإجراءات اجتماعية وغيرها كثير لا تعني الغالبية منها سوى البحث عن الأثر المباشر عليها إيجاباً أو سلباً، مع ترجيج كفة الأخيرة حتى أصبحت تحصيل حاصل.

هذه المرة، تثير تدوينة السيسي اهتمام الناس وشهية بعضهم، إن لم يكن للتغيير والتصحيح، فمن باب حب الاستطلاع. الطريف أن بسطاء في الشارع يتبادلون أحاديث شعبية عن 'الهندسة الانتخابية'، وأحياناً تتمدد لتشمل 'الهندسة السياسية' برمتها.

دخول 'الهندسة' على خط السياسة على ألسنة المصريين في الساعات القليلة الماضية أمر مثير وطريف. بالفطرة، يربط البعض بين لقب 'يا هندسة' الذي يعني أن حامل اللقب يحمل سمات شخصية ذكية أو حاذقة أو منظمة، وهو ما مكن مسمى 'الهندسة السياسية' أو 'هندسة الانتخابات' تجد طريقها مباشرة إلى حديث الشارع.

بين 'هندسوها صح' و'هندسوها غلط' تدور نقاشات شعبية في ضوء تدوينة السيسي، وجميعها ينطلق من 'معلومة يقينية' تنتاب الغالبية أن 'العرس الانتخابي' في مجمله أو غالبه مهندس، بمعنى آخر، مصنوع بمقاييس ومواصفات لتتناسب أصحابها. بمعنى ثالث، الانتخابات 'ملعوب فيها'.

الكاتب محمد أمين وضع المفهوم الشعبي للهندسة السياسية في سياق رصين، إذ قال تحت عنوان 'الهندسة السياسية' إن الفرق بين الانتخابات التي تعرف الهندسة السياسية، والانتخابات التي لا تعرف الهندسة السياسية كبير. 'الانتخابات التي جرت في نيويورك على منصب العمدة شيء، والانتخابات التي تجرى في مصر الآن على مقاعد مجلس النواب شيء آخر، كالفرق بين السماء والأرض. هناك حرية وديمقراطية وشفافية، وليس هناك مال سياسي وكراتين للناخبين'.

ومضى أمين قدماً في المقارنة بين ممداني الذي لم يكن معروفاً على الإطلاق، لكن حين ركز في حملته الانتخابية على أزمات السكن وتكاليف المعيشة والمواصلات، استطاع أن يخاطب فئات كثيرة بين الناخبين، بينما المرشحون في مصر لم يسمع عن أحدهم مناقشة قضايا الناس المعيشية، ولا مشكلات أصحاب المعاشات ولا مصاريف التعليم والحصول على شقق اجتماعية للشباب، وتكاليف ومتاعب العلاج في المستشفيات، إنما سمعنا عن قوائم سياسية وتكتلات حزبية حجزت مقاعدها في المجلس قبل الانتخابات، وهو ما ينفي وجود مصلحة تجعل الناخبين يتوجهون إلى صناديق الاقتراع.

وخلص أمين إلى أن هذا هو الفرق بين المشهد الانتخابي أو السياسي في مصر، وبين الدول التي لم تسمع بعد عن 'الهندسة السياسية'، مشيراً إلى أن كليات الهندسة لا تعرف فرعاً اسمه الهندسة السياسية، لذلك لن يكتب له طول البقاء، 'بل هو رهن بفترة تاريخية محددة وحقبة سياسية محددة'.

يذكر أن مراجع العلوم السياسية تلفت إلى مفهوم 'الهندسة السياسية' في إشارة إلى سن القوانين والقواعد لتحقيق نتائج سياسية محددة، لكنها تتحدث عن تعزيز الديمقراطية وضمان استقرار الحكومات أكثر من 'تفصيل' المقاعد النيابية بحسب مقاسات مرشحين بأعينهم.

أما 'هندسة الانتخابات' فتتناولها مراجع العلوم السياسية بصدر أكثر رحابة ليشمل 'تصميم الأنظمة الانتخابية بصورة تحقق نتائج سياسية محددة سلفاً، وقد تتضمن صياغة قواعد اللعبة السياسية عمداً لتشمل سلوكاً سياسياً يرجح كفة تيارات أو كيانات سياسية بعينها.

تدوينة الرئيس لم تتطرق إلى كل ما سبق، لكنها تظل محتفظة لحين إشعار آخر بثقل رمزي يتجاذبه الأمل واليأس. وسبب الثقل هو أن الآمال المعلقة أكبر وأوسع وأشمل وأعمق بكثير من المشهد الانتخابي، يبقى المشهد الانتخابي نتيجة وليس سبباً، ومكون في لوحة فسيفسائية أنهكت تفاصيلها كثيرين.

لو سئل المواطن المصري عن رأيه في الديمقراطية، فلن يتحمس كثيراً أو يسهب طويلاً في الإجابة وسرد محاسنها وتفنيد مساوئها والتعبير عن الاشتياق إليها أو التغني بالعيش في رحابها. مفهوم الديمقراطية تعرض لهزات شعبية عدة، بدءاً بما أسفرت عنه أحداث عام 2011 مروراً بانتخابات عام 2012، وكذلك مجريات الاقتصاد على مدار العقد الماضي.

يمكن القول إن المفهوم الأشمل للديمقراطية ليس الشغل الشاغل للغالبية، وهو ما يمكن تفسيره في ضوء عوامل عدة تشمل اهتزازات عديدة للمفهوم تنضح بها أعتى ديمقراطيات العالم، و'تروما' أحداث ما بعد 2011، وهي الأحداث التي اتخذت من هدف الديمقراطية شعاراً لها، إضافة إلى شيوع نماذج عدة للديمقراطيات الكرتونية المتمثلة في أحزاب عديدة بلا أثر، أو مجالس مختلفة بلا سلطة، أو أصوات زاعقة بلا تأثير وغيرها.

يقول الكاتب خالد منتصر عن الديمقراطية والمفهوم الشامل للحرية غير المقتصر على اللجنة والشرطي والصندوق، 'القانون الذي يسود ويطبق على الجميع، والفصل بين السلطات، سلطة تشريعية تشرع، سلطة تنفيذية تنفذ، سلطة قضائية تحاسب، وإعلام قادر على كشف الفساد، إعلام لا يتلقى الأوامر، وأعين المجتمع الرقابية وكذلك المجتمع المدني القوى والنقابات والأحزاب والجمعيات والاتحادات'.

وأشار منتصر إلى أن الديمقراطية تقوم كذلك على النقد لا الطاعة، وتعليم يزرع التفكير والتساؤل وتفنيد البدهي والمألوف، مضيفاً أن الديمقراطية يصعب تحقيقها في ظل فقر وانعدام أمان اجتماعي، 'إذ الفقير ليس لديه ترف الاختيار الموضوعي المبنى على برنامج واضح، إذا لم نلب للناخب البسيط نداء البطن، فلن يلبى نداء الديمقراطية، سيلبى فقط نداء صاحب العزومة وليس صاحب العزيمة'.

عزيمة المصريين في شرح وتشريح تدوينة السيسي لا تلين، وبين احتياطات سريعة يتبعها مسؤولون بغرض التأمين، ومواقف متسرعة يتخذها مثقفون وشخصيات عامة للتهليل لما جاء في التدوينة من نبرة غاضبة لما جرى من 'تجاوزات' بعد ما كانت مواقفهم بالأمس القريب تهليلاً لـ'العرس الانتخابي'، ومحاولات من آخرين لتحليل ما وراء التدوينة والتأرجح بين تمن بأن يكون المقصود أكبر من انتخابات شابتها تجاوزات، وتخوف من أن تكون التدوينة مقتصرة بالفعل على ما جرى بين المرشح والناخب من أجل الصندوق، ما زالت التدوينة شغلاً شاغلاً وقوساً مفتوحاً.