اخبار مصر
موقع كل يوم -اندبندنت عربية
نشر بتاريخ: ٢٠ كانون الثاني ٢٠٢٥
تشهد تصورات المصريين عن الخصوصية اضطراباً كبيراً يتداخل فيها الديني مع الاجتماعي لتأخذ صورة النصيحة والمحبة
أعلى ماكينة سحب الأموال في مصر لافتة كبيرة تقول، 'حافظ على مسافة مناسبة بينك وبين الآخرين لضمان الخصوصية والأمان'. أسفل اللافتة، وأمام لوحة الماكينة الرقمية جمهرة كبيرة من المواطنين والمواطنات وأمين شرطة. مواطن مسن متعثر في سحب معاشه، والمصطفون والمصطفات خلفه في الطابور يهرعون إلى مساعدته. هذا يسأله عن الرقم السري، وذاك يستفسر منه عن إجمال المبلغ في الحساب، وهذه تقترح عليه سحب 100 جنيه على سبيل التجربة قبل سحب الألف جنيه التي يحتاج إليها.
وحين يفشل الجمهور في التعامل مع حساب الرجل يتدخل أمين الشرطة المنوط به الحفاظ على أمن محيط البنك وأمانه، وتبدأ الكرَّة مجدداً، 'رقمك السري يا حاج'، و'هل هذه الـ2000 جنيه شاملة قيمة معاشك؟'، و'صافي معاشك كم يا حاج؟'.
ياسمين ابنة مدام صفاء في الطابق الثاني تقدم لها عريس أول من أمس، وتصاعدت الزغاريد من الشقة. أمس، طرقت باب مدام صفاء كل من مدام شيماء من الطابق الأول والحاجة أسماء من الطابق الخامس، وذلك للسؤال عن تفاصيل الاتفاق. كم سيدفع العريس مهراً؟ هل يشتري شبكة ذهب أم ألماس؟ شقة الزوجية تمليكاً أم إيجاراً؟ من سيدفع قيمة الأثاث؟ هل والدته على قيد الحياة؟ هل لدى أسرته أملاك؟
أماني متزوجة منذ 10 سنوات، ولديها وزوجها طفلة في الثامنة من العمر. جاراتها وزميلات العمل يسألنها بصفة شبه يومية عن أسباب عدم وجود طفل ثانٍ، وإن كانت لديها مشكلة في الإنجاب، أم أن المشكلة في زوجها، ومنهن من تتفهم قرار الاكتفاء بطفلة واحدة، فلا تخرج الأسئلة عن إطار، 'أكيد المشكلات بينك وبين زوجك استفحلت، هل تنوين الطلاق؟ ومتى؟'.
راتبك وديانتك
في القاعة المخصصة لانتظار طالبي الحصول على تأشيرة لزيارة بريطانيا، جلس أمجد إلى جوار رجل أربعيني. بدأ الحوار المقتضب بالأسئلة المعتادة في مثل هذا السياق. هل زرت بريطانيا من قبل؟ هل واجهتك مشكلات في الحصول على التأشيرة من قبل؟ إلخ، وذلك قبل أن يباغته الرجل بسؤال: كم راتبك؟
في عربة السيدات في مترو أنفاق القاهرة، جرى حوار عابر بين راكبتين، بدأ بالطقس، ومر بالأوضاع الاقتصادية الصعبة، وانتهى بسؤال: أنت مسيحية ولا مسلمة؟
السؤال المتوقع والمعروف والمقبول لأي 'صديق' يجلس يختلي بنفسه ويجلس وحيداً في المقهى أو الحديقة أو الساحة هو، 'لماذا تجلس وحدك؟'، وذلك قبل أن تتواتر الحلول، 'فلان هنا، يمكنك أن تنضم إليه'، أو 'عُد إلى البيت بدلاً من الجلوس وحيداً'.
الجلوس وحيداً يعني بالضرورة أن هناك مشكلة ما. والامتناع عن الإدلاء بأدق تفاصيل الحياة من راتب وحالة اجتماعية ونوع المعتقد وطريقة ودرجة ممارسة العبادات وقدرات العريس المادية وقيمة المهر والمؤخر وحجم الشبكة والرقم السري للحساب البنكي جميعها يعني أن الممتنع إما مبتلى بالوسواس القهري، أو نرجسي يحتاج إلى علاج، أو مصاب باضطراب الشخصية المعادية للمجتمع، أو يحتقر العادات والتقاليد، أو مصاب بعقدة الخواجة، أو ضربته عادات غربية وأصابته تقاليد أوروبية لا تمت للشرق الدافئ الحنون بصلة.
الخط الرفيع الفاصل بين الدفء والحنان من جهة، والتدخل في حياة الآخرين، والحنان وخرق الخصوصية وضربها في مقتل التداول العلني والتطفل الذميم من جهة أخرى، كثيراً ما يصبح ضبابياً.
'تتيح الخصوصية للفرد التمتع بحقوق أخرى، منها النمو الفردي الحر، وقدرة الفرد على التعبير عن شخصيته وهويته ومعتقداته، وعلى المشاركة في الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية'. هذا ما ينص عليه الحق في الخصوصية، وهو حق أساس وبديهي من حقوق الإنسان الأممية، كما ورد في تعريف 'مكتب مفوض الأمم المتحدة السامي لحقوق الإنسان'.
لكن بين المفوضية ومجريات الشارع المصري هوة ثقافية سحيقة، وفجوة مجتمعية عميقة، ولغة مختلفة وإن كانت أبجديتها واحدة ومفرداتها متطابقة. خصوصية الراكب المهروس في منتصف الميكروباص وهو يتصفح هاتفه المحمول، حيث أعين الركاب والمجاورين ومن يجلسون خلفه تتنافس على الشاشة مستحيلة. وخصوصية الشابة غير المتزوجة البالغة من العمر 35 سنة فيما يختص باختياراتها الحياتية، التي تسكن عمارة مكونة من 40 شقة سكانها أقرب ما يكونون إلى الأسرة الممتدة أمر غير وارد. وخصوصية من يجري مكالمة هاتفية شخصية في مكان عمل مفتوح دون أن يباغته زميل بإبداء الرأي في المسألة الأسرية التي كان يتحدث عنها أو المشكلة الزوجية التي كان يناقشها مسألة صعبة.
تأمين الحق في الخصوصية لا يضاهيه صعوبة إلا شرح المقصود بالخصوصية والدفاع عنها في مدينة مثل القاهرة مثلاً، حيث الكثافة السكانية تبلغ نحو 45 ألف مواطن في الكيلومتر المربع الواحد!
الحديث في الهاتف في الباص العام يعني أن ما لا يقل عن 40 شخصاً مع المتكلم بكل حواسهم. وكثيراً ما يتحول موضوع المحادثة إلى قضية رأي عام في الباص في المساقة من العتبة إلى رمسيس. اللافت أن في غالب الأحوال، لا المتكلم يعترض على تدخل الركاب في أدق تفاصيل المكالمة، أو الركاب يشعرون أنهم يخرقون خصوصيته أو يتدخلون في شؤونه، بل العكس هو الصحيح. إنها المشورة الشعبية التي يسهل العثور عليها في كل ركن وشارع وبيت ومحل وسوق، سواء طلب أحدهم المشورة أو لم يطلبها. إنها قدر.
تعريف الخصوصية
المادة 57 من الدستور المصري الصادر عام 2014 تنص على أن 'للحياة الخاصة حُرمة، وهي مصونة لا تُمس. وللمراسلات البريدية والبرقية والإلكترونية والمحادثات الهاتفية وغيرها من وسائل الاتصال حُرمة، وسريتها مكفولة، ولا يجوز مصادرتها، أو الاطلاع عليها، أو رقابتها إلا بأمر قضائي مسبب، ولمدة محددة، وفي الأحوال التي يبينها القانون'.
وتنص المادة 58 على أن 'للمنازل حُرمة، وفيما عدا حالات الخطر، أو الاستغاثة لا يجوز دخولها، ولا تفتيشها، ولا مراقبتها أو التنصت عليها إلا بأمر قضائي مسبب، يحدد المكان والتوقيت والغرض منه، وذلك كله في الأحوال المبينة في القانون، وبالكيفية التي ينص عليها، ويجب تنبيه من في المنازل عند دخولها أو تفتيشها، واطلاعهم على الأمر الصادر في هذا الشأن'.
غالب الظن أن مثل هذه النصوص هي الأقل تداولاً بين القاعدة العريضة من المصريين. مفهوم 'الخصوصية' انتشر في السنوات القليلة الماضية بين البعض لأسباب غالبها يتعلق باستخدام الإنترنت ووسائل الاتصال والتواصل المختلفة. وهناك من اهتم بها لأسباب تتعلق بأحداث سياسية وأمنية، وملاحقات من أجهزة الدولة لأشخاص لأسباب تتعلق بـ'أمن وسلامة الوطن'، وإن كان الملاحقون يصفونها بـ'الملاحقات الأمنية التي تخرق خصوصيتهم'.
أما 'الخصوصية' بمعناها الفلسفي أو الإنساني، فرفاهية لا تتوافر للغالبية، وأمراً لا يشغلها كثيراً أو أبداً، لا سيما أن العوامل الاجتماعية والثقافية والاقتصادية المرتبطة بها شبه غائبة.
تعريفات اللغة الإنجليزية للخصوصية في قواميس اللغة تراوح ما بين 'الحالة التي يحق لكل فرد ألا يكون موضوعاً تحت الملاحظة أو المضايقة من قبل آخرين وحالة أن يكون الشخص وحده، أو الحق في إبقاء الأمور الشخصية والعلاقات سرية أو الحرية من التدخل غير المسموح أو المصرح به من آخرين'.
أما التعريفات العربية في المعاجم، فتدور حول 'خصوصية الموضوع، أي أهمية تميزه على غيره'، أو 'خصوصية الشيء أي خاصيته'، أو 'ما يتعلق بشخص أو مجموعة دون سواها'، أو 'خصوصية الشخص، وهي شؤونه الخاصة'، أو 'خصوصية صفة معينة في شخص دون غيره'. أما الخصوصية بمعنى حق الفرد في أن يكون وحده، أو أن يحتفظ بتفاصيل حياته لنفسه، أو عدم تدخل الآخرين، سواء بحسن أو سوء نية، وسواء لأغراض أمنية أو سياسية أو اجتماعية أو أسرية في شؤونه، فهذا غير وارد في المعاجم والمعاني، وإلى حد كبير في الشارع والبيت والعمل.
تدخل بالإكراه
راضي وسعيد عاملان نظافة في نادٍ رياضي شهير في القاهرة. راضي يهوى متابعة مقاطع 'تيك توك' على هاتفه المحمول في أوقات الراحة. أما سعيد فيهوى سؤال راضي عما يشاهد، والإصرار على مشاركته المشاهدة حيناً، وسؤاله عم سبب مشاهدة هذا وذاك حيناً آخر، وإخباره أن عليه أن يقصر متابعته على الدين وكرة القدم فقط دائماً.
نادية ودعاء موظفتان في مصلحة حكومية منذ ما يزيد على 35 عاماً. نادية ارتدت الحجاب قبل نحو 30 عاماً، ثم ارتدت النقاب قبل نحو عام. دعاء غير محجبة. هذا اختيارها. نادية لا ترى في الحجاب اختياراً أو عدم ارتدائه حرية شخصية أو مطالبة الشخص بارتداء زي ما تدخلاً في أموره الشخصية أو خرقاً لخصوصيته. نادية تخلط مفهومها للدين، وفكرتها عن التدين، وواجبها نحو من تحب، وحق من تحب في الاختيار في خلاط واحد، فتخرج بخطبة يومية قوامها أن كل ما تتعرض له دعاء من مشكلات في الدنيا سببه عدم ارتدائها الحجاب، وأن الثعابين القرع والديدان والحشرات ستلتهم جسدها، وأن منكراً ونكيراً لن يعفياها من العذاب لمجرد أنها كانت طيبة أو أمينة أو كريمة أو صادقة أو محسنة في حياتها. ظلت دعاء تقاوم هذا التدخل في خصوصيتها عقوداً، قبل أن تقرر اتباع ما تتعرض له يومياً قدراً وأمراً محتوماً، لا سيما أنها ونادية أوشكتا على التقاعد.
لأن تعريف الخصوصية ضبابي وغائم وهلامي، ولأن ما يعد 'خرقاً للخصوصية' في الغرب هو نصيحة ومحبة ومودة في الشرق، ولأن ما يعد 'احتراماً للخصوصية' هناك هو 'انعدام للإنسانية وفقدان للمروءة والشهامة' هنا. ولأن ما يعده المجتمع احتراماً لخصوية أفراده في هولندا مثلاً هو تصرف مريب وتوجه مقلق و'برّاوية' في مصر مثلاً، فإن التعامل مع الخصوصية أمر شاق.
يشار إلى أن 'برّاوي' باللهجة المصرية هو الشخص القادم من حياة الصحراء غير المعتاد على الزحام أو حياة المدينة الصاخبة أو القرية المتلاصقة، وهو ما يجعله غريب الطباع، مفضلاً العزلة، فارضاً سياجاً حوله تمنع الآخرين من الاقتراب، ومن ثم القرب منه والإجهاز على حياته الخاصة.
في ورقة عنوانها 'مفهوم الخصوصية بين الفكر القانوني والفلسفة' نشرتها 'مؤسسة حرية الفكر والتعبير'، يشير الكاتب تامر موافي إلى أن 'الحق في الخصوصية هو أحد أكثر الحقوق تأثراً بالاختلافات الاجتماعية والثقافية عبر الحدود المكانية والزمانية، فأكثر من أي حق آخر يعتمد الحق في الخصوصية على تصورات الناس عن حدود خصوصيتهم ومدى تقديرهم لقيمتها في حياتهم. وتختلف هذه التصورات من مكان إلى مكان. كما تختلف بمرور الزمن، ونتيجة لتغير أنماط الحياة اليومية'.
ويشير موافي إلى أنه في ظل تسارع التغيرات الاجتماعية في السنوات القليلة الماضية، وذلك نتيجة دمج أعداد كبيرة من البشر لوسائل التواصل الرقمية في حياتهم اليومية، تشهد تصورات الناس عن الخصوصية اضطراباً كبيراً، إذ تقف هذه التصورات عاجزة عن التعامل مع مواقف جديدة يفرضها الواقع اليومي. ويزيد من تعقد المسألة أن هذه المواقف أبعد ما تكون عن الأنماط التقليدية، التي ما زال غالب التصورات السائدة للخصوصية يعتمد عليها. ولا تنشأ هذه المواقف فقط نتيجة لتطور الحياة اليومية للفرد عبر فترة زمنية محدودة.
'سوشيال ميديا' ودين
يتضاعف ويتفاقم مفهوم الخصوصية في مصر لأسباب عدة. فإضافة إلى ما سبق، وتحول كثر إلى اعتناق حياة 'سوشيال ميديا'، سواء كمتخصصين في عرض أدق تفاصيل حياتهم أو التدخل في أدق تفاصيل حياة الآخرين أو متابعة عرض تفاصيل حياة الناس على الأثير، تتداخل عوامل وتغيرات عدة لتؤثر في خصوصية المصريين، أو ما تبقى منها. أبرز هذه العوامل والمتغيرات هو التغيرات الثقافية التي المرتدية جلباب الدين وعباءته.
رؤية 'المنكر' والتدخل لتغييره بوقفه فعلياً، أو بالقول والنصح والوعظ والإرشاد باتا من سمات الحياة اليومية في المجتمع على مدار النصف قرن الماضي، وهو ما يتعاظم ويتصاعد بينما تكتب هذه السطور.
نظرياً، لا يحق لشخص، أو للدولة، التدخل في خصوصية المواطنين، بمعنى اختياراتهم لما يأكلون أو يشربون أو يرتدون أو غيرها ما دام لا يخترق القانون أو الاعتداء على حريات الآخرين. فعلياً، الكل يتدخل في حياة الجميع، والغالبية لا تعترض أو تشكو أو تطالب بعدم خرق الخصوصية.
على سبيل المثال لا الحصر، لا يوجد نص قانوني يجرم الإفطار في مصر في نهار رمضان، لكن يجري تصنيفه اجتهادياً 'فعلاً فاضحاً' في الطريق العام، ويمكن أن يحاسب مقترفه بالحبس مدة لا تزيد على عام أو غرامة مالية.
الكاتب عادل نعمان كتب في عام 2022 تحت عنوان 'الدولة ليست هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر'، 'الدولة لا تحاسب إلا من يخالف القانون أو يخرج على النظام العام، فلا عقوبة ولا جريمة إلا بنص، وليس من سلطة الدولة المدنية الحديثة دعوة النساء إلى الحجاب أو الحشمة أو توجيه أو تصويب أزياء مواطنيها، ولا تفصل ولا تفرق بين الرجال والنساء في الأماكن العامة، ولا تتعقب أو تلاحق النساء السافرات في الأسواق، أو تتبع وتؤدب كل من أطال شعره من الشباب، أو تراقب وتعاقب أصحاب المحال التي لا تغلق أبوابها أوقات الصلاة، أو تلاحق خُطى الساعين إلى إقامة شعائر الله، فتعاقب من تركها وتكافئ من أقامها'.
صحوة التدخل في شؤون الآخرين
الحس الديني في سنوات التدين أو الصحوة في النصف قرن الماضي استثنى التدخل في شؤون الآخرين، من ملبس ومأكل ومسكن وترفيه وعلاج وزواج وتعليم وثقافة ورياضة وعلاقات اجتماعية وأولويات اقتصادية وقرارات حياتية وغيرها من مفهوم الخصوصية، إن وُجد.
منصات ومواقع الإفتاء غير الرسمية على أثير الإنترنت، التي تلقى رواجاً وقبولاً وشعبية بين قاعدة عريضة من المصريين تجمع على أن 'التحجج' بالحرية الشخصية لرفض أو مقاومة أو تجريم أو منع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أمر مرفوض ومكروه. تتراوح النصائح 'الدينية' في حال مواجهة اعتراض أو تحجج أو مطالبة بعدم التدخل في الشؤون الشخصية بين الترفق من قبل الأمر بالمعروف والناهي عن المنكر، وربما الدق أولاً على وتر أن المنكرات والمعاصي هي سبب البلاء ونزول العقوبات الإلهية على المجتمعات، وضرورة التعاون بين المسلمين بإزالتها حتى لو كان أصحابها لا يحبون ذلك.
المؤسسات الدينية الرسمية لا تختلف كثيراً في هذا الشأن، إذ يجري اعتبار الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر 'من الأمور الواجبة على المسلم تجاه أخيه المسلم'، وأنها 'من دلالات المؤمنين والروابط بينهم'، و'من أسس الإيمان' والقائمة طويلة.
ليست الخصوصية وحدها التي تعاني ضبابية التعريف، لكن 'المعروف' و'المنكر' أيضاً. متابعة مباراة كرة قدم أو ممارسة النساء للرياضة أو دراسة علوم الفيزياء ونظريات أصول الكون منكر للبعض. وترهيب النساء لجعلهن يلتزمن بزي ما، أو إجبار العمال والموظفين على الصلاة جماعة في مكان العمل، أو توبيخ أحدهم لأنه يسمع موسيقى أو يطرح أسئلة لا تعجب الغالبية أو يقرر الزواج من دون حفل أو مهر أو شبكة هو أمر بالمعروف للبعض، والأمثلة كثيرة.
وللخصوصية في مصر بُعد طبقي أيضاً. جرى العرف على توجيه اتهامات لمن تتوافر له القدرة المادية ويختار أن ينتقل من عمارة سكنية في حي مزدحم إلى مجتمع مغلق يعرف بـ'كومباوند'، حيث خصوصية السكن والحياة شكلاً وموضوعاً أنه يتعالى ويتكبر ويتغطرس.
يمكن القول إن هناك رفضاً شعبياً عتيداً لفكرة خصوصية السكن، واعتبار ذلك إما دليلاً على الغنى الفاحش، وإما الفساد في تكوين الثروة، أو التعالي على الناس، أو رفض اختلاط الطبقات، أو اختيار العيش في فقاعات، أو الرغبة في الانفصال عن الشرفاء. أما الرغبة في الخصوصية، فاحتمال غير وارد.الوارد هو أن يسخر المتضررون من انعدام الخصوصية من أنفسهم كأقلية، ومن من حولهم من الغالبية التي تخرق خصوصيتهم طوال الوقت. نكات و'ميمز' عن خصوصية سحب مبلغ مالي من ماكينة الصراف الآلي، بينما جمهور غفير يتابع تفاصيل عملية السحب، أو شخص يقرأ رسالة أو يشاهد فيديو على هاتفه المحمول وركاب الباص يشاركونه القراءة والمشاهدة لحظة بلحظة، أو شاب وخطيبته يلتقطان 'سيلفي'، فإذ بالخلفية عشرات المارة الذين تجمهروا للمشاركة، أو سلسلة نكات يبدأ جميعها بـ'مرة واحد خلّاه في حاله ولم يتدخل في حياة الآخرين'، وتنتهي بـ'أصيبت بسكتة قلبية' أو 'انتحر' أو 'تخلص من حاله حتى يدس أنفه في شؤون الآخرين بحرية'.