اخبار مصر
موقع كل يوم -صدى البلد
نشر بتاريخ: ٢٦ حزيران ٢٠٢٥
في لحظات امتزج فيها الرعب بالشجاعة، كتب المهندس السوري جريس جميل البشارة اسمه في سجلّ الأبطال حين واجه الموت دفاعاً عن مَن حوله داخل كنيسة مار إلياس في حي الدويلعة بدمشق. ففي الهجوم الإرهابي الذي وقع يوم الأحد الماضي، لم يكن البشارة مجرد ضحية، بل رمزاً لفدائية نادرة، حاول أن يصدّ المهاجم بيديه، لعلّه يمنع حمام الدم. لكنه دفع حياته ثمناً لذلك، إلى جانب شقيقه، وسط ذهول المصلين الذين نجا بعضهم بفضل تضحيته.
لم تكد تُعلن أسماء الضحايا حتى تصدّر اسم جريس البشارة مواقع التواصل الاجتماعي، حيث نعاه السوريون بلقب 'بطل الكنيسة'. وتداولت الحسابات صوره وتفاصيل قصته، وسط إشادات واسعة بشجاعته التي حالت دون سقوط المزيد من الضحايا. كثيرون اعتبروا أن تدخله البطولي ساهم في تقليص حجم المأساة، وأن تضحيته ستبقى محفورة في ذاكرة السوريين.
في شهادة مروّعة، خرجت زوجة جريس لتروي ما حدث لحظة بلحظة. قالت إن المهاجم بدأ بإطلاق النار خارج الكنيسة، ما دفع المصلين للانبطاح أرضاً. وحين فتح المهاجم الباب ودخل، اندفع جريس وشقيقه نحوه لمحاولة منعه من التقدّم. ألقى المهاجم قنبلة لم تنفجر، فحاولا السيطرة عليه، إلا أنه فكّ حزامه الناسف وفجّره بينهما.
وتروي الزوجة، بعينين دامعتين، كيف رأت بطن زوجها وكبده أمامها بعد الانفجار. 'كان كل شيء أشبه بكابوس، لكنني متأكدة أنه أنقذ كثيرين'، تقول بصوت يملؤه الألم والفخر في آنٍ واحد.
ارتفعت حصيلة القتلى إلى ما لا يقل عن 20 شخصاً، بحسب وزارة الصحة السورية، فيما نُقل عدد آخر من الجرحى إلى المستشفيات في حالات متفاوتة. أما الرئيس السوري أحمد الشرع، فقد تعهّد بملاحقة المتورطين، داعياً الشعب السوري إلى التكاتف في وجه من يحاول ضرب استقرار البلاد.
وفي الوقت الذي نُسب فيه الهجوم إلى عنصر تابع لتنظيم 'داعش'، خرجت تسريبات من مصدر أمني تتهم ما وصفها بـ'فلول النظام السابق' بالضلوع في التفجير، ما يعكس استمرار حالة الغموض والاتهامات المتبادلة في المشهد السوري.
كنيسة مار إلياس، الواقعة في حي الدويلعة الذي يقطنه غالبية من المسيحيين، لم تكن في السابق هدفاً مباشراً للهجمات الإرهابية. ويُعد هذا التفجير هو الأول من نوعه الذي يستهدف دور عبادة إسلامية ومسيحية منذ سقوط نظام بشار الأسد في ديسمبر الماضي، ما يعزز المخاوف من عودة موجات العنف الطائفي.
لم يكن جريس البشارة مجرد موظف حكومي يشغل منصب المدير العام للمؤسسة العامة للمواصلات الطرقية في دمشق. لقد تحول إلى رمز وطني في عيون السوريين، مثال للفداء والبطولة. فقصته، التي بدأت بخطوات شجاعة وانتهت بانفجار مأساوي، ستظل تروى في الكنائس والبيوت، كتجسيد حيّ لمعنى أن يضحّي الإنسان بحياته من أجل الآخرين.
هجوم كنيسة مار إلياس ليس مجرد عمل إرهابي عابر، إنه جرح غائر في ضمير السوريين، لكنه أيضاً شهادة على صمود مجتمع ما زال يواجه الموت بالحياة، والدمار بالتكاتف. في زمنٍ تتغير فيه الوجوه والأنظمة، تظل مواقف كجريس البشارة تذكّر الجميع أن البطولة الحقيقية لا تُولد في ميادين السياسة، بل في لحظات إنسانية خالصة، حين ينهض أحدهم ليواجه الموت... من أجل أن يعيش الآخرون.