أين منشآت مصر الحكومية من معايير الأمن والسلامة؟

غياب أجهزة الأمن الصناعي وعدم تدريب المعنيين على احتواء الحرائق أبرز الأسباب ومتخصصون يطالبون بتطبيق علم إدارة الأزمات في الجهاز الإداري

فتحت حادثة حريق سنترال رمسيس وسط العاصمة المصرية القاهرة، التي استمرت قرابة 20 ساعة وأسفرت عن وفاة أربعة أشخاص وإصابة آخرين، باب التساؤلات حول مدى التزام المنشآت الحكومية معايير واشتراطات الأمن والسلامة، وهل تُجرى عمليات صيانة وتفتيش ورقابة دورية لأنظمة الطوارئ؟ وما إذا حدث إجراء خطط تجارب لعمليات الإخلاء قبل وقوع الحادثة؟ وهل يدرّب الموظفون والعاملون بتلك المنشآت على التعامل مع حالات الحوادث الطارئة؟ وما طبيعة الإجراءات المُتبعة لتأمين العاملين أثناء عملهم، والجهات المنوط بها مراقبة إجراءات الأمن وقواعد السلامة المهنية؟

وأعادت حادثة حريق السنترال إلى الأذهان وقائع بعض الحوادث السابقة التي وقعت على مدى الأعوام القليلة الماضية في بعض المنشآت والمباني في محافظات مختلفة، فقبل ساعات تمكّنت الحماية المدنية بدمياط (شمال مصر) من السيطرة على حريق هائل اندلع داخل مصنع لصناعة الإسفنج بالمنطقة الصناعية بمدينة دمياط الجديدة، وفي مايو (أيار) 2023، شبّ حريق ضخم في مبنى جهاز الـ15 من مايو المكون من سبعة طوابق، ويضم إدارات عدة ومصالح حكومية بالمدينة، مما أدى إلى إصابة عدد من الأشخاص، وتدمير كامل لبعض الطوابق بالمبنى. وفي أغسطس (آب) من العام نفسه، اندلع حريق داخل مبنى وزارة الأوقاف المصرية في منطقة وسط القاهرة، ودفعت الحماية المدنية بسيارات إطفاء للسيطرة على الحريق، وفي مطلع أكتوبر (تشرين الأول) من العام ذاته شبّ حريق ضخم بمديرية أمن الإسماعيلية شمال شرقي العاصمة المصرية القاهرة وأصيب عدد من الأشخاص في الحريق.

وعلى رغم الإشادة الواسعة بجهود رجال الحماية المدنية في الحوادث، فإنه تعالت الصيحات والنداءات من بعض نواب البرلمان وقوى حزبية وسياسية للمطالبة بفتح تحقيق عاجل ومراجعة شاملة لمنظومة الأمان داخل المنشآت الحيوية، وضرورة تبني خطة وطنية شاملة، لإعادة تأهيل منظومة الحماية في المنشآت الإستراتيجية، لضمان عدم تكرار مثل هذه الحوادث، علاوة على المطالبة بتشكيل لجنة تقصي حقائق للكشف عن ملابسات حادثة السنترال خصوصاً، والوقائع المشابهة عموماً، وكذلك الإجراءات التي ينبغي اتخاذها لتلاشي تلك الكوارث مستقبلاً، مشددين على أن الوقاية الاستباقية أكثر فاعلية من التحرك بعد وقوع الكوارث.

خطط إخلاء وطوارئ غير مفعلة

في تقدير وكيل الحماية المدنية السابق بالقاهرة اللواء أيمن سيد الأهل فإن أغلب الشواهد في حادثة حريق سنترال رمسيس تشير إلى أن خطط الإخلاء والطوارئ 'لم تكن مُفعّلة'، ولم يتم إجراء عمليات تجريبية لها قبل وقوع الحادثة، على رغم أن القانون أقرّ بضرورة إجرائها مرتين سنوياً.

يقول سيد الأهل، خلال حديثه إلى 'اندبندنت عربية'، 'أي حريق إذا جرت السيطرة عليه في الدقائق الخمس الأولى سينتهي نهائياً، وذلك في حال إذا كان سيستم الإنذار والإطفاء الآلي يعمل بكفاءة وفاعلية'. موضحاً 'مستشعرات السيستم يفترض كانت ستشعر بالحريق على الفور، وتتعامل معه بالغازات المخمدة (FM200) ومن ثم كان الحريق سينطفئ على الفور'.

لكن كل الشواهد تشير، وفق الأهل، إلى أن هذا 'لم يتحقق في حادثة حريق السنترال، الذي يحوي معدات وأجهزة ودوائر إلكترونية ذات جهد مختلف، وتعتمد وسائل الإطفاء فيه على الغازات المخمدة، لأن استخدام المياه مع تلك الأجهزة، سيسبب مشكلة وضرراً أكبر، مما يطرح بدوره علامات استفهام عدة، وهو أمر ستظهره جهات التحقيق الرسمية'.

ويُبين وكيل الحماية المدنية الأسبق بالقاهرة أن اشتراطات الأمن والسلامة في أية منشأة ينبغي أن تتحقق فيها عوامل عدة، أبرزها خطة إطفاء وإنذار آلي باستخدام الأدوات المناسبة لطبيعة المكونات بالمكان، وخطة إخلاء معتمدة من إدارة الحماية المدنية. مستشهداً بـ'إخلاء مبنى يحوي 10 آلاف موظف قد يكتب على الورق أنه يستغرق مدة خمس دقائق، لكن وقت التجريب قد يستغرق أكثر من 15 ساعة، لأنه قد يكتشف أن هناك منافذ خروج غير مُفعلة أو سلالم ضيقة لا تسع لنزول أعداد كبيرة من العاملين بالمنشأة'.

وتساءل سيد الأهل، 'هل التأخر في إجراءات المكافحة الأولية من قبل مسؤولي السنترال يرجع إلى عدم وجود خطة إخلاء وطوارئ وفريق مدرب قادر على التعامل مع تلك الحالات الطارئة؟ وهل جرى إجراء اختبار لأجهزة السيستم متعدد الأنظمة وخطط الإنذار والإطفاء الآلي قبل الحادثة؟ وهل حصلت تلك الخطة على الموافقة والاعتماد من الجهات المختصة أم لا؟' مرجحاً أن يكون طول فترة السيطرة على الحريق ترجع إلى التأخر في الإبلاغ، مع وجود محاولات في البداية للسيطرة على الحريق بكميات محدودة من المياه، لتجنب تلف الكابلات والدوائر الإلكترونية في المبنى.

وخلال تفقد رئيس الوزراء المصري الدكتور مصطفى مدبولي، موقع حادثة حريق سنترال رمسيس قبل ساعات، اطلع على تقرير مفصّل من وزير الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات في شأن الحادثة، أظهر أنه جرى إبلاغ الحماية المدنية وعلى رغم وجود آليات الإطفاء الذاتي والمحاولات اليدوية للمساعدة، فإن سرعة انتقال الحريق من خلال الكابلات أدت إلى انتقاله إلى الغرف المجاورة واشتداده، مما تسبب في عدم السيطرة عليه من أجهزة الإطفاء الذاتي، موضحاً أن الحماية المدنية حضرت في حدود الساعة الخامسة والنصف عصراً، لكن الحريق امتد إلى معظم أدوار المبنى وصالات تقديم الخدمة، مما أثر في الخدمات، بشكل جزئي، سواء على المستوى الجغرافي، أو على المستوى القطاعي.

وفي رأى وكيل الحماية المدنية السابق، فإن سيارات المطافئ في العالم بأكمله أثناء التعامل مع الحوادث تكون مزودة بخزان مياه ورغوي وأحياناً بودرة، وليس غازات مخمدة أو مثيلة، مردفاً 'حينما اشتعلت النيران في السنترال ولم يتعامل سيستم الإطفاء الآلي مع الحادثة بالآليات المناسبة يعني بكل وضوح أنه جرى فقدان القدرة على السيطرة، ولم يكن أمام رجال الإطفاء سوى فصل الكهرباء للتعامل مع الدوائر الكهربائية والأجهزة الحساسة بالمبنى واستخدام خراطيم المياه لإطفاء الحريق'، لافتاً إلى أن 'عملية المكافحة حتى الإطفاء تشكل مرحلة أولى في أية حادثة، تعقبها مرحلة التبريد التي قد تستمر يوماً أو اثنين، نظراً إلى أن بعض المكونات قد ينطفئ الحريق منها ظاهرياً، لكن قد تكون مشتعلة داخلياً، وهو ما ينبغي التعامل معه بالتبريد'.

منظومة ذكية لإطفاء الحرائق

في السياق ذاته، يرى أستاذ الإدارة الحكومية والمحلية الدكتور حمدي عرفة، أن حوادث اشتعال الحرائق في المنشآت الحكومية 'أصبحت ظاهرة ينبغي التعامل معها بجدية من قبل المسؤولين'. موضحاً أن حادثة السنترال كشفت عن عدم وضع الوزارات خططاً إستراتيجية بديلة في حالات حدوث الطوارئ، باستثناء وزارة الصحة التي خصصت أرقاماً بديلة، وقاربت المسافات في 'اتصالات إسعاف الفيوم'، واستخدامه لصالح القاهرة الكبرى، كما أظهرت حادثة السنترال عدم وجود تنسيق بين المحافظين والوزراء في خدمات الجهاز الإداري للدولة، لوضع سيناريوهات وخطط محكمة لمنع تفاقم الأزمات.

وأكد وزير الاتصالات المصري عمرو طلعت، خلال تفقده مبنى سنترال رمسيس التابع للشركة المصرية للاتصالات، أنه جرى نقل كل الخدمات إلى أكثر من سنترال، ليعملوا كشبكة بديلة. نافياً أن تكون مصر معتمدة على سنترال رمسيس فقط مركزاً رئيساً لخدمات الاتصالات. مبيناً أن سنترال رمسيس سيظل خارج الخدمة أياماً، وأنه على رغم ذلك ستعود الخدمات بشكل تدريجي بعد ما جرى نقل كل الخدمات التي توجد في سنترال رمسيس إلى أكثر من سنترال.

ويعزو أستاذ الإدارة الحكومية، خلال حديثه إلى 'اندبندنت عربية'، سبب تفاقم بعض الأزمات في المباني الحكومية إلى غياب أجهزة الأمن الصناعي وعدم تدريب موظفي الأمن الصناعي والسلامة المهنية على احتواء الحرائق، وهو أمر يمثل ثغرة كبيرة. مشيراً إلى أن عدد مفتشي السلامة المهنية والأمن الصناعي في الجهات الحكومية لا يتناسب على الإطلاق مع حجم المؤسسات، مشدداً على ضرورة أن يكون هناك مفتشون موجودون بشكل دوري للقيام بالصيانة والمتابعة وتطبيق معايير السلامة.

وفي اعتقاد أستاذ الإدارة الحكومية فإنه ينبغي العمل على محاور رئيسة عدة لتأمين منظومة الخدمات الحكومية، أبرزها وضع منظومة ذكية لإطفاء الحرائق أوتوماتيكياً، واتباع إجراءات السلامة المهنية الدقيقة، ووضع الأنظمة الوقائية في الخدمات الحكومية الحيوية كـ'الاتصالات'، إلى جانب وضع أجهزة استشعار للحرائق للتعامل معها لحظياً.

ويطالب عرفة بتطبيق علم إدارة الأزمات في الجهاز الإداري، وما يتضمنه من التنبؤ بالأزمة ووضع الإستراتيجيات البديلة للأزمات قبل حدوثها وسيناريوهات التعامل معها، علاوة على الصيانة الدورية وتوظيف التكنولوجيا الحديثة لضمان سرعة التدخل وتقليل الخسائر. مشيراً إلى أن الدفاع المدني كان يجب أن يتدخل بشكل أكثر فاعلية باستخدام طائرات الهليكوبتر التي كانت من الممكن أن تسهم في السيطرة على النيران بشكل أسرع، خصوصاً في منطقة حيوية مثل 'رمسيس'.

وألقى أستاذ الإدارة الحكومية باللوم على غياب المحافظين عن المشهد، وهو ما يتعارض بشكل صارخ مع المادة (25) من قانون الإدارة المحلية رقم 43 لسنة 1979، الذي يُلزم المحافظين بالتنسيق واتخاذ القرارات البديلة في الأزمات التي تمسّ عامة المواطنين.

ويعتقد عرفة أن ملف إدارة الأزمات في عديد من الوزارات الحكومية أصبح 'محلك سر'، بحسب تعبيره، منوهاً بأن خدمات الإنترنت الثابت والمحمول مرتبطة بـ144 خدمة حكومية في الجهاز الإداري للدولة بنسبة 44‎ في المئة‎ ودولياً مرتبطة بنسبه 92‎ في المئة‎ في المتوسط العام، مطالباً بضرورة التنسيق المستمر بين الشركة المصرية للاتصالات وشركات المحمول، لإعادة تشغيل الدوائر المتأثرة فوراً في حال الكوارث، والاعتماد على خطوط بديلة بشكل استباقي.

صيانة دورية ومتابعة

في المقابل يرى مساعد وزير الداخلية للحماية المدنية السابق اللواء علاء عبدالظاهر أن كل المنشآت والمباني الحكومية وغير الحكومية تلتزم تطبيق معايير وإجراءات اشتراطات الأمن والسلامة المهنية، مشيراً إلى أنه لا يمكن التكهن بمعرفة سبب اندلاع الحريق في حادثة حريق 'سنترال رمسيس' حتى اللحظة الراهنة إلا بعد انتهاء التحقيقات الرسمية وإصدار المعمل الجنائي قوله النهائي في هذا الشأن، مردفاً 'أتوقع أن تكون منشأة بقيمة وأهمية سنترال رمسيس بها آليات إطفاء ومفعل بها خطط الطوارئ والإخلاء، ومن المؤكد أنه يجرى عليها تفتيش دوري كل ثلاثة أشهر وتطبق معايير وإجراءات الأمن والسلامة'.

ويرجح عبدالظاهر أن سبب اشتعال النيران ساعات طويلة في سنترال رمسيس على رغم جهود رجال الإطفاء يعود إلى ارتفاع درجات الحرارة وتيارات الهواء الساخنة والأحمال الكهربائية، مردفاً 'البعض لا يدرك مدى صعوبة الموقف حينما تشتعل النيران بمبنى أو منشأة، لأنها تكون أسرع مما يتخيل أحد وتستطيع في خلال دقائق معدودة أن تحول مبنى مأهول بالسكان إلى كتلة نار، وتحتاج إلى تعامل مُحكم وسريع'.

وعلى رغم تأكيده التزام أغلب المنشآت الحكومية معايير واشتراطات السلامة، فإنه لا ينكر أن وقوع بعض الحوادث في منشآت ومبان حكومية في بعض الأحيان قد يرجع إلى حالات إهمال وتراخٍ وعدم تطبيق لتعليمات الأمن ومعايير السلامة، وغياب تجارب خطط الإخلاء والطوارئ، وعدم تدريب الموظفين والعاملين بالمنشآت على التعامل مع تلك المواقف.

ويشير عبدالظاهر إلى أن إدارة الحماية المدنية إحدى الجهات الرئيسة في منح التراخيص، موضحاً أن كل المنشآت لديها كود للحماية المدنية، يقوم باحتساب ما تتضمنه المنشأة من عدد صناديق الحريق والمطافئ ومواتير الرفع وعدد السلالم وحنفيات المياه بكل دور ومصدر المياه الرئيس.

ويوافقه الرأي مساعد وزير الداخلية للحماية المدنية سابقاً اللواء عبدالعزيز توفيق، مشدداً على ضرورة أن يكون هناك جدية في استمرار متابعة إجراءات السلامة والأمن حتى بعد الحصول على موافقة الجهات الرسمية والاشتراطات المطلوبة. موضحاً أن كل منشأة ملزمة بتدريب 25 في المئة من العاملين بها سنوياً بمعاهد تدريب الحماية المدنية بالمحافظات وفقاً لقانون العمل.

ويرى توفيق، خلال حديثه إلى 'اندبندنت عربية'، أن الفيصل الرئيس في الحفاظ على المنشآت الحكومية من الحوادث والحرائق يتمثل في الصيانة الدورية وإجراءات التفتيش والمتابعة بشكل مستمر وتحديث المنظومة بصورة دورية.