رُبّ مــوت.. كالحــيــاة!.. عالم تاني تتجوّل

هي المرة الأولى منذ زمن طويل، تأخذنا الجولة في العالم الثاني نحو أصعب منعطف لليقين الوحيد، الموت، وهي المرة الأولى، أيضاً، التي تظهر فيها الجولة دون أن تجاورها 'كلمة صريحة' جديدة يسطرها أستاذنا الغالي محمود بكري، بمداد روحه معبرًا عن هموم الوطن، وما أضعف الكلمات هاهنا وهي تحاول وصف المشهد، كيف يمكن لثمانية وعشرين حرفًا أن تتراص بمهارة ودقة لتعبّر عن.. عن.. عن ماذا؟ الفقد.. الفراق.. انتزاع جزء من الروح وقطعة غالية من العمر.. .شريط طويل من الذكريات يمر بسرعة البرق قاذفًا لوعة الحزن ومرارة القهر في قلوب أخلصت بمحبتها فانكسرت ولم يسمع أنينها إلا خالقها.

حين نفارق حبيبًا لا نحزن على فقده فقط، وإنما يدهس الحزن أرواحنا اشتياقًا لما كنا نشعر به حين كنا معه، إننا نحزن على أنفسنا في غيابه، نئن من نزيف جرح لا يندمل مع الأيام، وكيف للجرح أن يندمل وقد غيّب الموت محمود بكري، هذا الرجل المقاتل الإنسان الودود النبيل الذي تعلّقت أرواحنا به لأكثر من ربع قرن من الزمان، وفجأة تداهمنا 'سبعون يومًا عجاف' تنتهي بالرحيل فيتغيّر شكل الحياة بهذا الرحيل، وبعد أن كنا نستأنس بأحاديثه الباسمة وكلماته الملهمة، فاجعتنا الأقدار لتجبرنا على الاكتفاء بالأنس بسيرته العطرة، وحدها، وإنها شيء لو يعلمون عظيم.

منذ اليوم الأول لدخول محمود بكري لغرفة العناية المركزة، بعد مرض مفاجئ بالتهاب رئوي، ظلت الحيرة سيد المشهد بالكامل، فالرجل أصلًا غير مدخن، ولم تعرف رئته طريقًا للدخان يومًا ما، وسادت الدعوات أروقة العالم الثاني 'القريب' وحاول مصطفى بكري البقاء في موضع الصمود (كعادته)، وهو يتآكل من داخله، بحكم أن شقيقه (وشقيقنا) محمود هو 'دينامو الجريدة'، و'محرك البحث' سواء في برنامجه التليفزيوني أو في الحياة بشكل عام.

ومنذ اليوم الأول لدخول الأستاذ محمود المستشفى، ظهرت النبوءة في 'رؤيا' له وهو نائم، حكاها لإخوته وأولاده في أولى لحظات عودته للوعي، رأى 'الوالدين الراحلين الكريمين' يناديانه ويخبرانه أنهما بانتظاره!

لم تكن مجرد 'أضغاث أحلام' تحت تأثير المرض، وإنما 'رؤيا' لعلها تكتمل الآن في جنات الخلد، بإذنه تعالى.

منذ اليوم الأول لمرضه، ضجت مئات من 'جروبات الواتس' تضم آلاف الأعضاء، لمؤازرة الغالي الذي امتدت أياديه البيضاء من حلوان إلى قنا، وظهرت عشرات المؤسسات المجتمعية التي كانت تعمل بتوجيهاته لخدمة الناس، وومضت مئات من الأسر التي كان يرعاها 'خلسة'، وتهافت الجميع لتوزيع الصدقات لعلها المنجية، مصداقًا لحديث الرسول الكريم 'داووا مرضاكم بالصدقات'، ولكن أمر الله نافذ، وإن كانت أنهار الصدقات لن ينضب تدفقها على روح الفقيد الغالي.

لم تكن أحزان فقد محمود بكري مقصورة فحسب، على 'الجماعة الصحفية'، وإنما امتدت إلى الجماعة الإنسانية بأكملها، سيرته ليست ببعيدة عن أهل الفن والسياسة والإعلام، في مصر والوطن العربي، فالرجل كان نائبًا بمجلس الشيوخ، وكاتبًا صحفيًا من المقام الرفيع لأكثر من ثلاثين عامًا، وكان مرهف الحس، شغوفًا بالأدب والفن والثقافة، حاضرًا لفعاليات معارض الكتب ومتذوقًا للأعمال الفنية الراقية، ولهذا لم يغب عن صفحات المشاهير وحرص آلاف منهم على كتابة منشورات نعي وتعازٍ، ومنهم كبار رجال الدين.

وحرص عدد من رموز القيادات السياسية العربية، على تقديم واجب العزاء في فقيد حمل على عاتقه الهم العربي، ورفع لواء العروبة، فالرئيس الفلسطيني محمود عباس أبو مازن، حرص على الاتصال التليفوني بالشقيق مصطفى بكري، لتقديم واجب العزاء، والتأكيد على المواقف الوطنية للفقيد الراحل، في دعم القضية الفلسطينية.

ولم تفسد اختلاف المواقف السياسية، للود قضية، وحرص عدد ممن اختلف معهم الراحل، على كتابة منشورات حزينة لفقد رمز وطني عريق، ومنهم علاء مبارك نجل الرئيس الأسبق حسني مبارك، والمفكر السياسي نائب مجلس الشورى عبد المنعم سعيد، وآخرون.

استعاد جمهور العالم الثاني، مقاطع صوتية من برنامج 'كلام في الوعي'، الذي كان محمود بكري يقدمه على أثير البرنامج العام بالإذاعة المصرية، والذي بدأ بثه بالتزامن مع الاحتفال باليوم العالمي للإذاعة، فبراير العام الماضي.

يُذكر، أن البرنامج الإذاعي حقق شهرة واسعة لأسباب متعددة، أهمها قيمة المادة التي كانت تقدّم على مدار ثلاثين دقيقة ظهر يوم الجمعة من كل أسبوع، لمناقشة موضوعات تمس المجتمع المصري، باستضافة رموز الفكر والفن والسياسة، بإدارة واعية يديرها باقتدار واحد من أولى الألباب، يتمتع بصوت رخيم، ولباقة، وطلاقة لسان، هو محمود بكري.

تداول نشطاء العالم الثاني، مقاطع من آخر فيديو نشره الراحل، وهو يتجول (كعادته) في شوارع مدينة حلوان، كنائب للشعب مهموم بأحوال البسطاء، وكانت جولته الأخيرة، يرتدي بدلته الرسمية كاملة (كعادته) تحت قيظ الشمس الحارقة، في شارع فيضي، أمام الحديقة اليابانية، وهو يشير إلى مبانٍ آيلة للسقوط، اتخذها بعض الخارجين على القانون أوكارًا للمخدرات وممارسة الانحرافات السلوكية الخطرة، وقف النائب يناشد المسئولين في بلادنا لإنقاذ الناس، لتتم مشاركة الفيديو وتستمر المناشدات حتى بعد رحيله.

وطيلة الأيام الماضية، ظل اسم محمود بكري، ثابًا في 'محركات البحث' على 'جوجل'، مدعومًا بهاشتاجات انتشرت بالآلاف عبر صفحات التواصل الاجتماعي، يرتادها القاصي والداني، مَن يعرفه ومَن لم يعرفه، وكم من 'محركات بحث' نرتادها نحن داخل دهاليز الذكريات، لنستعيد بعضًا من كلمات الصديق الراحل، وابتسامته التي لم تفارق وجهه، ونبل أخلاقه، ونصائحه الملهمة، وخدماته التي لا تنقطع، ويا لمرارة الفقد، فليس مَن عرف كمَن لم يعرف، وأبداً ليس مَن سمع كمَن رأى وعايش واقترب.

سيرة الإنسان قد تخلده للأبد، وتصمد شامخة أمام غول الزمن فيستعصي على النسيان، سيرة محمود بكري ليست كأي سيرة، عايشنا ورأينا وروينا عن هذا الرجل آلاف الحكايا، وأضعاف أضعاف لم تُـروَ بعد.