اخبار مصر
موقع كل يوم -الرئيس نيوز
نشر بتاريخ: ٢٦ تشرين الأول ٢٠٢٥
في اكتشاف أثري استثنائي، أعلن فريق من علماء الآثار الأتراك عن العثور على تمثال نصفي من البرونز للإلهة المصرية إيزيس داخل المدينة القديمة 'ساتالا' في شمال شرق تركيا، وهي قاعدة عسكرية رومانية تاريخية كانت مقرًا لفرقة 'ليجيو الخامسة عشرة أبولوناريس' خلال القرن الأول الميلادي.
وبحسب تقرير مجلة أركيونيوز المتخصصة في شؤون الآثار، فإن هذا التمثال النادر الذي يبلغ طوله نحو 20 سنتيمترًا يقدم دليلًا جديدًا على الامتداد الثقافي والديني للحضارة المصرية داخل مؤسسات الإمبراطورية الرومانية، ويكشف عن مدى التنوع العقائدي الذي كان يميز جيوشها في الشرق.
اكتشاف في مقبرة عسكرية قديمة
وقع الاكتشاف داخل منطقة المقابر (النيكروبوليس) في مدينة ساتالا القديمة، الواقعة في مقاطعة 'كلكيت' التابعة لمحافظة 'غوموشهانة' شمال شرقي الأناضول.
وأكدت مديرة أعمال التنقيب الدكتورة إليف يافوز شاكمور، من جامعة البحر الأسود التقنية، أن التمثال عُثر عليه مفصولًا عن قاعدته لكنه بحالة حفظ ممتازة، وهو ما جعل الخبراء يعتبرونه واحدًا من أهم المكتشفات الأثرية في تركيا خلال العقد الأخير.
وقالت شاكمور إن الموقع كان يشهد نشاطًا مكثفًا للجنود الرومان الذين مارسوا عبادة آلهة متعددة مثل 'ميثرا' و'الآلهة الاثني عشر'، مضيفة أن وجود إيزيس المصرية بين هذه الطقوس يُظهر مدى انتشار التأثير الديني القادم من وادي النيل إلى قلب الأناضول، وكيف تبنّى الجنود الرومان رموزًا شرقية تعبّر عن الخصب والحماية والأمومة.
تفاصيل التمثال البرونزي
يُظهر التمثال الإلهة إيزيس وهي واقفة على قاعدة ثلاثية الأرجل تخرج من تصميم نباتي على شكل كأس ثلاثي الأوراق، وهو رمز قديم للحياة والتجدد. ويعلو رأسها سُنبُلتان من القمح ترمزان إلى الخصوبة والرخاء، بينما تغطي كتفيها شال مزخرف ذو أطراف متدلية على الطريقة الإغريقية الرومانية، مما يعكس مزيجًا فنيًا بين الرمزية المصرية والتقنية الهلنستية التي سادت في العصور الكلاسيكية المتأخرة.
ويخضع التمثال حاليًا لعمليات ترميم دقيقة قبل عرضه في متحف مدينة غوموشهانة، حيث من المقرر أن يخضع لاحقًا لفحوص معدنية وفنية لتحديد تاريخ صناعته الدقيق ومصدر الورشة التي أنتجته، سواء كانت محلية أم ضمن ورش البحر المتوسط التي كانت متخصصة في الفن البرونزي.
أول تمثال يُكتشف منذ القرن التاسع عشر
ووفقًا لتقرير 'أركيونيوز'، يُعد هذا التمثال أول قطعة فنية من نوعها تُكتشف في ساتالا منذ سبعينيات القرن التاسع عشر، عندما تم العثور على تمثال للإلهة 'أفروديت'.
ويرى الباحثون أن العثور على تمثال مصري في موقع عسكري روماني في قلب الأناضول يمثل إضافة ثمينة لفهم التعدد الديني داخل الفيلق الروماني، إذ تُظهر الأدلة الأثرية أن بعض الضباط والجنود تبنّوا عبادات أجنبية جلبوها من المناطق التي خدموا فيها، مثل مصر وسوريا وفينيقيا.
ساتالا... القاعدة التي ربطت الشرق بالبحر الأسود
تُعد مدينة ساتالا من أهم المراكز العسكرية في الإمبراطورية الرومانية الشرقية. فقد كانت مقرًا رئيسيًا للفيلق الخامس عشر أبولوناريس، أحد أبرز الجيوش الرومانية في الأناضول، وقد تأسست في القرن الأول الميلادي لتكون قاعدة دفاعية وإدارية تربط بين كبادوكيا والبحر الأسود.
ورغم الحروب المتكررة التي شهدها الإقليم، خاصة مع الإمبراطورية الساسانية في القرن السابع الميلادي، ظلت ساتالا مركزًا نشطًا حتى العصر البيزنطي. وتشير أعمال التنقيب الأخيرة إلى وجود مقابر محفورة في الصخر وآثار عسكرية متكاملة، ما يجعلها من أكثر المواقع الرومانية حفظًا في الشرق الأدنى.
بصمة مصرية في قلب الإمبراطورية الرومانية
يرى الخبراء أن وجود الإلهة إيزيس داخل موقع عسكري روماني في الأناضول يعكس عمق التأثير المصري في المعتقدات الرومانية بعد ضم مصر إلى الإمبراطورية عام 30 قبل الميلاد.
فقد انتشرت عبادة إيزيس، المعروفة بقدرتها على الشفاء وحماية البحارة والأمهات، في جميع أنحاء حوض المتوسط، وأصبحت رموزها تُزين المعابد والسفن والعملات.
وتوضح المصادر أن العديد من الجنود الرومان الذين خدموا في الشرق اعتادوا تبني الآلهة المحلية، في محاولة للتماهي مع الثقافات التي يعيشون بينها.
ومن المرجّح أن يكون هذا التمثال مملوكًا لأحد الضباط الذين عبدوا إيزيس على نحو شخصي، أو كان جزءًا من معبد صغير داخل القاعدة العسكرية نفسها.
يمثل هذا الاكتشاف أكثر من مجرد قطعة أثرية، فهو شاهد على تمازج حضاري فريد بين مصر وروما والأناضول. فالإلهة المصرية التي خرجت من معابد الأقصر والفيوم، وصلت إلى جبال الأناضول لتُعبَد بين الجنود الرومان الذين حملوا رموزها على دروعهم وصلبانهم.
ويؤكد علماء الآثار أن هذا التمثال سيصبح إحدى القطع المركزية في متحف غوموشهانة بعد الانتهاء من ترميمه، لأنه لا يقدم فقط صورة فنية نادرة لإيزيس، بل يعيد قراءة التاريخ الديني والسياسي في زمن الامتداد الروماني نحو الشرق.
نافذة على تداخل الحضارات القديمة
يقول الباحثون إن هذا الاكتشاف يسلّط الضوء على حركة التبادل الديني والثقافي بين الحضارات القديمة، ويمنح الباحثين فرصة لإعادة تقييم مفهوم الهوية في العالم القديم، حيث لم تكن الحدود الجغرافية تمنع انتشار الرموز والأساطير.
ويُنتظر أن تفتح التحليلات المستقبلية لهذا التمثال المجال أمام فهم أعمق لكيفية امتزاج الفن المصري بالتقاليد الرومانية، وكيف أسهمت رموز مثل إيزيس في تشكيل الوعي الديني العالمي في العصور الكلاسيكية.


































