اخبار مصر
موقع كل يوم -الرئيس نيوز
نشر بتاريخ: ١٣ تشرين الثاني ٢٠٢٥
تشهد الساحة الفكرية العربية منذ عام 2011 تحوّلات عميقة ومتسارعة، ارتبطت مباشرة بالحراك الشعبي، والانهيارات الاقتصادية، والانقسامات الإقليمية، وصولًا إلى المأساة الإنسانية المتواصلة في غزة.
وفي دراسة نشرتها مجلة 'ريست دوك'، المتخصصة في حوار الحضارات، ترى الباحثة إليزابيث سوزان كسّاب أن عام 2011 مثّل نقطة تحوّل تاريخية في الوعي العربي، ليس فقط على المستوى السياسي، بل الفكري أيضًا، حيث فجّرت الانتفاضات الشعبية أسئلة وجودية حول الحرية والكرامة والعدالة.
تبدأ كسّاب قراءتها من مرحلة 'الربيع العربي' التي أسقطت أنظمة راسخة في تونس ومصر واليمن، وامتدت تأثيراتها إلى ليبيا وسوريا والسودان والعراق ولبنان والجزائر. فقد فتح الحراك الممتد جغرافيا الباب أمام جيل جديد من المفكرين والباحثين، أغلبهم من الشباب ومن خارج الأطر الأكاديمية التقليدية، ممن نشروا أفكارهم عبر المنصات الرقمية ووسائل الإعلام البديلة. هؤلاء، بحسب الكاتبة، يشكّلون ملامح 'الفكر العربي المعاصر الجديد' الذي يتجاوز النخب القديمة ويتنوع في المنهج واللغة والاهتمام.
رحيل جيل الروّاد وصعود أصوات جديدة
وتشير كسّاب إلى أن وفاة رموز الفكر العربي في العقود الماضية، مثل محمد عابد الجابري، محمد أركون، فاطمة المرنيسي، نوال السعداوي، هشام جعيط، وحسن حنفي، تركت فراغًا كبيرًا في الساحة الفكرية. ومع غياب شخصيات ذات حضور كاريزمي مماثل، برز جيل جديد يعمل في الظل، يعبّر عن قضايا الناس اليومية، ويعيد تعريف معنى النقد والمقاومة في عالم عربي يعيش على وقع الحروب والقمع والهجرة.
من نقد الثقافة إلى مواجهة الواقع
ترى الكاتبة أن الفكر العربي ما قبل 2011 كان يتركّز حول قضايا الهوية، التراث، والحداثة، وهي موضوعات ابتعدت عن هموم الناس الحقيقية. أما بعد الثورات، فقد أعادت الشعوب تعريف أولوياتها، فظهرت نقاشات تركز على الكرامة، العدالة، والمساءلة، في مقابل تراجع الخطاب الثقافوي الذي ربط الأزمة العربية بعوامل دينية أو حضارية.
وتوضح كسّاب أن الوعي الجديد يتجه إلى مقاربة أكثر سياسية وإنسانية، تعتبر غياب الديمقراطية والمشاركة سببًا أساسيًا للأزمة، لا مجرد خلل في الثقافة أو الفكر.
تحدي العنف ومعنى التفكير في أزمنة مظلمة
مع اندلاع الحروب في سوريا واليمن وليبيا وصعود التنظيمات المتطرفة مثل 'داعش'، واجه المفكرون العرب سؤالًا صعبًا: كيف يمكن التفكير وسط الدمار والعنف؟ تشير كسّاب إلى أن الأدب والفن والفكر بعد 2011 أصبح مشغولًا بتجربة الجسد الممزق والروح الجريحة، وبالسؤال عن إمكانية التعبير عن الألم عندما تتجاوز المأساة حدود اللغة.
في هذا السياق، يتراجع التركيز على الأيديولوجيات الكبرى، ويحلّ مكانها بحث أخلاقي وإنساني عن 'رعاية الآخر' و'إعادة بناء الروابط المجتمعية' في مواجهة الانهيار.
غزة.. نقطة انكسار جديدة في الضمير العالمي
تصف كسّاب الحرب على غزة منذ عام 2023 بأنها لحظة فاصلة في الوعي العربي والعالمي معًا. فالمجازر، كما تقول، لم تعد تُظهر ازدواجية المعايير الغربية فحسب، بل كشفت 'انهيارًا كاملًا في المصداقية الأخلاقية والفكرية' للمنظومة الغربية التي تدّعي الدفاع عن القيم الإنسانية.
وترى أن هذه التجربة أعادت صياغة مفهوم 'الكونية' نفسه، بعدما انهار ادعاء الحضارة الغربية احتكار القيم العالمية. وتبرز في المقابل تيارات فكرية عربية وفلسطينية تستعيد 'لاهوت التحرير' كمصدر مقاوم يربط بين الإيمان، والعدالة، والتحرر من الاستعمار.
نحو فكر عربي جديد
تؤكد كسّاب أن ما نعيشه اليوم ليس مجرد استمرار للفكر العربي المعاصر الذي بدأ بعد هزيمة 1967، بل ميلاد مرحلة جديدة تمامًا أكثر واقعية وتعددًا. فالموضوعات التي تشغل المفكرين حاليًا — مثل الجسد، والألم، واللغة، والمجتمع، والأخلاق، والعالمية — لم تكن في بؤرة الاهتمام من قبل.
وترى أن من المبكر رسم ملامح نهائية لهذا الفكر الجديد، لأن العالم العربي لا يزال يعيش تحوّلاته الكبرى. لكن المؤكد أن الفكر العربي بعد غزة لن يكون كما كان قبلها، وأن السؤال عن العدالة، الحرية، والكرامة سيبقى المحرّك الأساسي لأي مشروع فكري مقبل.


































