اخبار مصر
موقع كل يوم -الدستور
نشر بتاريخ: ٩ أيلول ٢٠٢٤
أصدر الكاتب الكبير خيري شلبي - والذي تحل اليوم ذكرى رحيله - كتابه 'محاكمة طه حسين' عام 1972، عن المؤسسة العربية ببيروت، وهو الكتاب الذي يتضمن تفاصيل محاكمة العميد، وتحقيقات رئيس نيابة مصر محمد نور.
الحكاية كما كتبها الراحل خيري شلبي أنه في يوم 30 مايو 1926 تقدم الشيخ حسنين الطالب بالقسم العالي بالأزهر ببلاغ لسعادة النائب العمومي يتهم فيه الدكتور طه حسين 'الأستاذ بالجامعة المصرية'، بانه ألف كتابا أسماه 'في الشعر الجاهلي' ونشره على الجمهور، وفي هذا الكتاب طعن صريح في القرآن حيث نسب الخرافة والكذب لهذا الكتاب السماوي العظيم، إلى آخر ما تم ذكره في البلاغ.
وكان من الممكن ان يحفظ هذا البلاغ ولا يلقى اهتماما مذكورا لولا انه بتاريخ 5 يونيو عام 1926 أرسل فضيلة شيخ الجامع الأزهر لسعادة النائب العمومي خطابا يبلغه فيه بتقرير رفعه علماء الجامع الأزهر عن كتاب ألفه طه حسين المدرس بالجامعة المصرية أسماه 'في الشعر الجاهلي' كذب فيه على القرآن صراحة وطعن فيه على النبي صلي الله عليه وسلم، وعلى نسبه الشريف، وأهاج بذلك ثائرة المتدينين واتى فيه بما يخل بالنظما لعامة ويدعو الناس للفوضى، وطلب اتخاذ الوسائل القانونية الفعالة الناجعة ضد هذا الطعن على دين الدولة الرسمي، وتقديمه للمحاكمة، وأرفق بهذا البلاغ صورة من تقرير أصحاب الفضيلة العلماء الذين أشار إليهم في كتابه.
ولم يقتصر الامر عند هذا الحد بل اتسع الموضوع واصبح مسألة عامة تتواتر بشأنها البلاغات، وبتاريخ 14 سبتمبر سنة 1926 تقدم بلاغ من حضرة عبد الحميد البنان عضو مجلس النواب وذكر فيه أن الأستاذ طه حسين المدرس بالجامعة المصرية نشر ووزع وعرض للبيع في المحافل والمحلات العامة كتابا أسماه في الشعر الجاهلي طعن وتعدى فيه على الدين الإسلامي وهو دين الدولة بعبارات صريحة واردة في كتابه بينتها في التحقيقات.
ويذكر خيري شلبي أن ان النيابة كان عليها ان تتحرك، فالمسألة ليست مجرد بلاغ من فرد أو اثنين أو ثلاثة كما أنها ليست فرد عادي بل شخصيات لها حيثيات اجتماعية والواقع أن المسألة لم تكن سهلة أو بسيطة فقد كانت تتحرك على أكثر من مستوى، فرغم ان طه حسين يقدم الأدلة والبراهين ويتبع في دراسته للشعر الجاهلي أسلوبا علميا منظما إلا أنه في النهاية يمس شيئا خطيرا للغاية، يمس التراث والمعتقدات الثابتة ويهزها من أساسها، أي أن يزلزل الأرض تحت الاقدام الآمنة المكتفية من الحياة بموقف الركون إلى الإيمان المطلق بالأشياء وبالمعتقدات الثابتة والموروثات على مختلف أنواعها.
وواصل:' الأسلوب الذي يتخذه طه حسين في بحثه أسلوب أوروبي لم يكن سائدا او معروفا في مصر وهو المنهج الديكارتي منهج الشك من أجل الوصول إلى يقين، وقد استخدمه المؤلف فبدا بالشك في الأحكام السابقة التي صدرت عن الشعر الجاهلي، ومسح عنها قشرة الزمن وعرضها للضوء، ثم أعاد النظر في النصوص نفسها على هدى من ثقافته العصرية المتجددة والمتطورة وانتهى إلى أن الشعر الجاهلي في حقيقة امره منتحل وأن الحياة الدينية والسياسية والعقلية والاقتصادية لا يمكن أن يمثلها الشعر الجاهلي، وأن اللغة الحميرية التي كانت تشيع في الجنوب، واللغة العدنانية بلهجاتها المتفاوتة التي كانت سائدة في الشمال لا يوجد لهما في الشعر العربي تمثيل صادق وأن للدين والشعوبية والسياسة واختلاف الرواة كبيرة في عملية الانتحال تلك.
وقامت القيامة واتسعت رقعة الموقف وانشغل الجميع بالرد على طه حسين وقد بلغ من خطورة الامر أن رد عليه البعض ليس بالمقالات بل بكتب كبيرة ومحاضرات منها محاضرات الشيخ محمد الخضري وكتاب 'الشهاب الراصد' لمحمد لطفي جمعة، وكتاب 'نقد كتاب في الشعر الجاهلي' لمحمد فريد وجدي، وكتاب 'نقض كتاب في الشعر الجاهلي' لمحمد الخضر حسين، وانتقلت القضية للنيابة العامة.
ويورد خيري شلبي النص الكامل لتحقيقات النيابة في هذا الشأن وصدر الكتاب في طبعته الأولى وكانت ضجة كبيرة حيث أنه انتشر بقوة أكثر من أي كتاب آخر لخيري شلبي، وبات مرجعا مهما في كل الدراسات والمراجع التي تدور حول طه حسين وأزمة في الشعر الجاهلي، حتى ان خيري شلبي يقول في مقدمة الطبعة الثانية للكتاب' لا أظن انني أحببت كتابا من كتبي قدر حبي لهذا الكتاب الحميم، فرغم أنه طبع في بيروت منذ أكثر من عشرين عاما طبعة محدودة جدا، لكن شهرته طبقت الآفاق ولا يمر وقت قصير أو طويل إلا واقرأ عنه مقالا هنا أو هناك، من المحيط إلى الخليج، وحتى في بلاد الفرنج، ولقد سبب لي فرحة لا يمكن وصفها.