اخبار مصر
موقع كل يوم -الرئيس نيوز
نشر بتاريخ: ٢ تموز ٢٠٢٥
في اكتشاف يعيد صياغة التاريخ وإنجاز أثري غير مسبوق، نجحت بعثة أثرية مصرية في انتشال اثنتين وعشرين كتلة حجرية ضخمة من قاع البحر الأبيض المتوسط قبالة سواحل الإسكندرية، وهي بقايا منارة الإسكندرية الأسطورية، إحدى عجائب الدنيا السبع القديمة.
يمثل هذا الاكتشاف خطوة تاريخية نحو تعميق فهمنا لهذا الصرح الهندسي البطلمي الذي كان رمزًا للابتكار والإبداع في العالم القديم. تشمل الكتل المستعادة عتبات أبواب المنارة، التي تقدم أدلة حاسمة على تصميمها المعماري وهيكلها الداخلي، مما يعزز جهود الحفاظ على التراث الثقافي المصري والعالمي.
ويبرز هذا الإنجاز أهمية منارة الإسكندرية كمعلم حضاري، ويؤكد دور الإسكندرية كمركز تجاري وثقافي رئيسي في العصر القديم، حيث كانت مرفأً للتجارة البحرية وملتقى للحضارات المتوسطية.
وشُيدت منارة الإسكندرية في القرن الثالث قبل الميلاد على يد المهندس سوستراتوس الكنيدي في جزيرة فاروس، وكانت بمثابة دليل بحري أرشد السفن إلى ميناء الإسكندرية، الذي كان مركزًا حيويًا للتبادل التجاري والثقافي بين الشرق والغرب.
يُعتقد أن المنارة بلغ ارتفاعها أكثر من مئة متر، وتكونت من ثلاث طبقات رئيسية: قاعدة مربعة تحتوي على غرف وممرات داخلية للعمال والصيانة، وجزء أوسط مثمن الشكل، وبرج دائري يعلوها تمثال، ربما لزيوس أو بطليموس الأول، رمزًا للقوة والسلطة البطلمية.
وتعرضت المنارة للدمار تدريجيًا بفعل سلسلة من الزلازل بين القرنين الرابع والرابع عشر الميلادي، مما أدى إلى غرق أجزاء كبيرة منها في البحر.
استعادة هذه الكتل الحجرية تمثل جسرًا بين الماضي والحاضر، حيث توفر فرصة لإعادة بناء المنارة رقميًا باستخدام تقنيات المحاكاة ثلاثية الأبعاد، مما يتيح للباحثين والجمهور استكشاف هذا العجب القديم بطريقة مبتكرة وتفاعلية.
تفاصيل العملية
أُجريت عملية انتشال الكتل الحجرية تحت إشراف المجلس الأعلى للآثار المصري، بالتعاون مع فرق غوص متخصصة ومهندسين بحريين ذوي خبرة عالية.
الكتل، المصنوعة من الجرانيت والحجر الجيري، تتراوح أوزانها بين خمسة وعشرة أطنان لكل كتلة، مما استلزم استخدام رافعات بحرية متقدمة وتقنيات غوص دقيقة لاستخراجها من أعماق تتراوح بين خمسة وعشرة أمتار تحت سطح الماء.
تشمل هذه الكتل عتبات أبواب المنارة، التي تُعد عناصر معمارية أساسية توفر أدلة على التصميم الداخلي وتنظيم الهيكلية الداخلية للمنارة.
تم العثور على هذه القطع بالقرب من قلعة قايتباي، التي بُنيت في القرن الخامس عشر باستخدام أحجار مُعاد تدويرها من المنارة الأصلية، مما يعزز أهمية الموقع ككنز أثري بحري.
وتطلبت العملية تخطيطًا دقيقًا لضمان الحفاظ على سلامة الكتل أثناء الرفع، حيث استُخدمت أنظمة حماية مثل الأغطية الواقية والحبال المصممة خصيصًا لمنع التلف الناتج عن الضغط المائي أو الحركات المفاجئة.
بعد استخراجها، نُقلت الكتل إلى مراكز متخصصة للتنظيف والدراسة، حيث يعمل علماء الآثار على تحليل النقوش والخصائص المادية للكتل باستخدام تقنيات متقدمة مثل التصوير الطيفي والمسح ثلاثي الأبعاد. قد تكشف هذه الدراسات عن تفاصيل جديدة حول تقنيات البناء البطلمية، مثل طرق قطع الأحجار بدقة وتجميعها باستخدام أدوات يدوية بدائية نسبيًا، فضلًا عن إلقاء الضوء على الحياة اليومية في الإسكندرية القديمة، بما في ذلك أنماط العمل والتجارة البحرية.
تخطط السلطات المصرية لعرض بعض هذه القطع في متاحف محلية، مثل المتحف القومي للحضارة المصرية أو متحف الإسكندرية القومي، لتعزيز السياحة الثقافية وإتاحة الفرصة للجمهور لمشاهدة هذه القطع الأثرية النادرة، مع توثيقها رقميًا لدعم الأبحاث العالمية.
الأهمية الثقافية والتاريخية
يندرج هذا الاكتشاف ضمن الجهود المصرية المستمرة للحفاظ على تراثها الأثري البحري، الذي يشمل بقايا مدينة الإسكندرية القديمة، مثل الميناء الشرقي وأجزاء من القصر الملكي البطلمي الغارق.
تُعد المنطقة المحيطة بقلعة قايتباي كنزًا أثريًا فريدًا، حيث تحتوي على العديد من القطع الغارقة التي تجذب الغواصين والباحثين من مختلف أنحاء العالم.
هذه الكتل ليست مجرد أحجار، بل تحمل قيمة تاريخية وثقافية هائلة، إذ يمكن أن تساهم في إعادة إنشاء نموذج رقمي دقيق للمنارة، مما يعزز فهمنا للهندسة المعمارية البطلمية ويحيي إرث هذا المعلم الأيقوني.
كما أن هذا الاكتشاف يسلط الضوء على التفاعل الحضاري بين الثقافات اليونانية والمصرية في العصر الهلنستي، حيث كانت الإسكندرية مركزًا للعلوم والفنون، واستضافت مكتبة الإسكندرية الشهيرة، التي كانت رمزًا للمعرفة الإنسانية.
ويدعم هذا المشروع السياحة الأثرية في مصر، التي تشهد نموًا ملحوظًا مع افتتاح مشاريع مثل المتحف المصري الكبير وتطوير المواقع الأثرية في الإسكندرية وسيناء.
يُتوقع أن يساهم عرض هذه الكتل في المتاحف في جذب المزيد من الزوار، مما يعزز الاقتصاد المحلي ويبرز دور مصر كحارسة للتراث الحضاري العالمي.
علاوة على ذلك، يُعد هذا الاكتشاف جزءًا من جهود عالمية للحفاظ على التراث الغارق، حيث تعمل منظمات مثل اليونسكو على حماية المواقع الأثرية البحرية من التدهور بسبب التغيرات البيئية والنشاط البشري.
من خلال هذا المشروع، تؤكد مصر التزامها بالمساهمة في هذه الجهود، مع تعزيز مكانتها كمركز عالمي للأبحاث الأثرية.
على الرغم من أهمية هذا الاكتشاف، تواجه عملية الاستعادة تحديات عديدة، مثل ضمان استدامة التمويل للمشاريع الأثرية البحرية، التي تتطلب استثمارات كبيرة في المعدات والخبرات المتخصصة.
كما أن التنقيب تحت الماء يتطلب تحسين التقنيات المستخدمة، مثل الروبوتات البحرية وأنظمة المسح الصوتي، لضمان دقة العمليات وسلامة البيئة البحرية.
بالإضافة إلى ذلك، يجب مراعاة المعايير البيئية لحماية النظام الإيكولوجي البحري في المنطقة، حيث يمكن أن تؤثر عمليات الرفع على الحياة البحرية إذا لم تُدار بعناية.
نجاح هذا المشروع يعتمد أيضًا على قدرة مصر على توفير بيئة مستقرة للبحث الأثري، بما في ذلك الاستثمار في تدريب علماء الآثار والغواصين، وتعزيز التعاون الدولي مع مراكز البحث العالمية.
من المتوقع أن تستمر مصر في إطلاق بعثات أثرية بحرية لاستكشاف المزيد من بقايا الإسكندرية القديمة، مع التركيز على تطوير تقنيات المسح ثلاثي الأبعاد والتصوير تحت الماء لتوثيق المواقع الغارقة بدقة عالية.
يُعد هذا الاكتشاف خطوة أولى نحو مشروع طموح لإعادة بناء المنارة رقميًا، وربما إنشاء نموذج مادي في المستقبل كجزء من متحف مفتوح أو معرض تفاعلي.
وفقًا لتقديرات الخبراء، يمكن أن تساهم السياحة الأثرية، المدعومة بمثل هذه الاكتشافات، في زيادة مساهمة القطاع السياحي في الناتج المحلي الإجمالي بنسبة تصل إلى 20% بحلول عام 2030، مما يعزز الاقتصاد المصري ويوفر فرص عمل جديدة.
كما تسعى مصر إلى تعزيز مكانتها كوجهة رئيسية للسياحة الثقافية، مع خطط لتطوير مواقع أثرية أخرى في الإسكندرية، مثل الميناء الشرقي ومنطقة كوم الدكة، لإبراز تاريخ المدينة العريق.
انتشال كتل منارة الإسكندرية يعد إنجازًا استثنائيًا يعزز فهمنا للتاريخ البطلمي ويبرز دور مصر كحارسة للتراث الإنساني العالمي.
من خلال استعادة هذه القطع الأثرية، تساهم مصر في إحياء إرث أحد عجائب الدنيا السبع، مع دعم السياحة الثقافية والبحث العلمي.
ويعكس هذا المشروع التزام مصر بالحفاظ على تراثها الأثري، ويفتح الباب أمام المزيد من الاكتشافات التي ستعزز مكانتها كمركز عالمي للآثار والثقافة.
ومع استمرار الجهود في تطوير تقنيات البحث الأثري البحري، من المتوقع أن تكشف الإسكندرية عن المزيد من أسرارها، مما يعيد صياغة فهمنا للماضي ويلهم الأجيال القادمة لتقدير هذا الإرث الحضاري العظيم.