اخبار الكويت
موقع كل يوم -جريدة الجريدة الكويتية
نشر بتاريخ: ٢٧ كانون الأول ٢٠٢٥
رحل صباح السبت المخرج المصري داود عبد السيد، في هدوء يشبه أفلامه، بعد مسيرة سينمائية اختار أن يختمها بإرادته، حين أعلن اعتزاله قبل سنوات، وكأنه كتب المشهد الأخير بيده، بعيدًا عن الصخب، ومتماسكًا مع قناعته بأن السينما موقف ورؤية قبل أن تكون حضورًا دائمًا.لم يكن داود عبد السيد مخرجًا غزير الإنتاج، لكنه كان صاحب بصمة نادرة. منذ ولادته عام 1946، وبداياته في السينما التسجيلية، بدا مشغولًا بسؤال الإنسان أكثر من انشغاله بالحدث. قدّم أفلامًا وثائقية مبكرة مثل «وصية رجل حكيم في شؤون القرية والتعليم» و«العمل في الحقل» و«عن الناس والأنبياء والفنانين»، قبل أن ينتقل إلى السينما الروائية وهو محمّل برؤية ترى في الفرد مدخلًا لفهم المجتمع، لا العكس.مع «الصعاليك» بدأ مشروعه الروائي يتشكل بوضوح. أبطال هامشيون، غير مسيّسين، لا يرفعون شعارات، لكنهم يبحثون عن الحرية والصدق مع النفس. ثم توالت أفلام صنعت مكانته الخاصة، من «الكيت كات» إلى «أرض الأحلام» و«سارق الفرح» و«أرض الخوف» و«مواطن ومخبر وحرامي» و«رسائل البحر»، وصولًا إلى «قدرات غير عادية». أفلام دخل كثير منها قوائم أهم الأعمال في تاريخ السينما العربية، وكرّسته واحدًا من أبرز مخرجي جيل الثمانينيات.في سينماه، لم يكن البطل نموذجًا مثاليًا صنعه المجتمع، بل فردًا يصنع مثاله الخاص، يمتلك مرجعًا إنسانيًا واسعًا، ويتحرك بدافع داخلي، أحيانًا بالصدفة، وأحيانًا بالحلم. راوٍ داخلي يبوح بالماضي، وراوٍ عليم يراقب ببرود، ومسافة محسوبة بين المخرج ومشاعره، تترك للمشاهد حق التأمل لا التلقّي.
رحل صباح السبت المخرج المصري داود عبد السيد، في هدوء يشبه أفلامه، بعد مسيرة سينمائية اختار أن يختمها بإرادته، حين أعلن اعتزاله قبل سنوات، وكأنه كتب المشهد الأخير بيده، بعيدًا عن الصخب، ومتماسكًا مع قناعته بأن السينما موقف ورؤية قبل أن تكون حضورًا دائمًا.
لم يكن داود عبد السيد مخرجًا غزير الإنتاج، لكنه كان صاحب بصمة نادرة. منذ ولادته عام 1946، وبداياته في السينما التسجيلية، بدا مشغولًا بسؤال الإنسان أكثر من انشغاله بالحدث. قدّم أفلامًا وثائقية مبكرة مثل «وصية رجل حكيم في شؤون القرية والتعليم» و«العمل في الحقل» و«عن الناس والأنبياء والفنانين»، قبل أن ينتقل إلى السينما الروائية وهو محمّل برؤية ترى في الفرد مدخلًا لفهم المجتمع، لا العكس.
مع «الصعاليك» بدأ مشروعه الروائي يتشكل بوضوح. أبطال هامشيون، غير مسيّسين، لا يرفعون شعارات، لكنهم يبحثون عن الحرية والصدق مع النفس. ثم توالت أفلام صنعت مكانته الخاصة، من «الكيت كات» إلى «أرض الأحلام» و«سارق الفرح» و«أرض الخوف» و«مواطن ومخبر وحرامي» و«رسائل البحر»، وصولًا إلى «قدرات غير عادية». أفلام دخل كثير منها قوائم أهم الأعمال في تاريخ السينما العربية، وكرّسته واحدًا من أبرز مخرجي جيل الثمانينيات.
في سينماه، لم يكن البطل نموذجًا مثاليًا صنعه المجتمع، بل فردًا يصنع مثاله الخاص، يمتلك مرجعًا إنسانيًا واسعًا، ويتحرك بدافع داخلي، أحيانًا بالصدفة، وأحيانًا بالحلم. راوٍ داخلي يبوح بالماضي، وراوٍ عليم يراقب ببرود، ومسافة محسوبة بين المخرج ومشاعره، تترك للمشاهد حق التأمل لا التلقّي.
كان داود عبد السيد جزءًا من موجة الواقعية الجديدة في الثمانينيات، إلى جوار أسماء كبيرة، لكنه ظل الأكثر انحيازًا للنزعة الفردانية، وللفكرة التي ترى أن الواقع لا يُشرح سياسيًا أو أخلاقيًا فقط، بل يُعاد بناؤه عبر تجربة إنسانية مركبة، تمتزج فيها الهزيمة بالحلم، والخوف بالحرية، والذات بالعالم.
قبل سنوات من رحيله، أعلن اعتزاله الإخراج عام 2017. لم يكن القرار احتجاجًا ولا انكسارًا. قال إنّه أدّى رسالته عبر الأفلام التي قدّمها، وإنّ التقدّم في العمر، وتغيّر الجمهور، وغياب مشروع سينمائي متكامل، جعلت الاستمرار بلا معنى. تحدّث بمرارة عن صعوبة التمويل، وعن سنوات الانتظار الطويلة لإنجاز فيلم واحد، وعن غياب رؤية ثقافية تشمل الدعم، والرقابة، وصالات العرض، وسينمات الأحياء.
رفض مقولة «الجمهور عاوز كده»، مؤمنًا بأن المبدع مسؤول عن تشكيل وعي جمهوره، لا الخضوع له. كان يرى أن السينما القادرة على الجمع بين المتعة والقيمة ليست رفاهية، بل واجب، وأن تقديم أفلام إلى «المقاعد الخاوية» خيانة للفن، مثلها مثل تقديم أعمال سطحية تُرضي السوق.
حتى حين احتُفي بأفلامه في المهرجانات، وظل «الكيت كات» يُكتشف من أجيال شابة لم تعاصره في دور العرض، كان داود عبد السيد يشير إلى المفارقة: جمهور موجود، لكن منظومة العرض غائبة، وسينما تُشاهد خارج سياقها الطبيعي. ومع ذلك، لم يتراجع، ولم يساوم، ولم يقبل أن يعمل إلا فيما يؤمن به.


































