في خطوة دبلوماسية هادئة ولكن بالغة الأهمية، استضافت الحكومة البريطانية، من مقرها في داوننج ستريت، وفودا مشاركة في مؤتمر مغلق استمر على مدار ثلاثة أيام، واجتمع أعضاء الوفود في قصر منعزل بمقاطعة ويست سوسكس جنوب إنجلترا، بهدف إطلاق جهود التخطيط لإعادة إعمار قطاع غزة بعد اتفاق وقف إطلاق النار بين إسرائيل وحماس.

المؤتمر، الذي بدأ في 13 أكتوبر 2025، جمع عشرات المسؤولين من دول الشرق الأوسط وأوروبا، إلى جانب ممثلين عن مؤسسات مالية دولية مثل البنك الدولي والبنك الأوروبي لإعادة الإعمار والتنمية، وفقًا لما نشرته صحيفة الإندبندنت البريطانية.

بعيد عن الأضواء.. ولكن ليس عن التأثير

المحادثات التي جرت في مركز 'ولتون بارك' التابع لوزارة الخارجية البريطانية، جاءت بالتزامن مع قمة شرم الشيخ التي شهدت توقيع وثيقة اتفاق غزة، لكنها اتخذت طابعًا أكثر فنيًا واستراتيجيًا، بعيدًا عن عدسات الكاميرات.

وقالت الحكومة البريطانية في بيان رسمي إن المؤتمر 'جمع ممثلين لقطاع الأعمال والمجتمع المدني والحكومات لإطلاق جهود حيوية في التخطيط والتنسيق لمرحلة ما بعد الحرب في غزة'، مشددة على أن القيادة يجب أن تكون فلسطينية.

وقال وزير الدولة البريطاني للشؤون الخارجية، هاميش فالكونر، إن 'علينا أن نكون مستعدين للتحرك لإزالة الركام، وإعادة بناء المنازل، وإنشاء البنى التحتية، واستعادة إمكان الوصول إلى التعليم والرعاية الصحية'.

وأضاف: 'ندرك حجم المهمة، ونعرف مدى إلحاحها وتعقيدها'، مشيرًا إلى أن العملية 'ستستغرق سنوات وتكلف مليارات'.

مشاركة عربية وأوروبية واسعة

وشهد المؤتمر مشاركة السلطة الفلسطينية إلى جانب مسؤولين من السعودية والأردن وألمانيا وإيطاليا، ما يعكس توافقًا دوليًا على ضرورة البدء الفوري في إعادة إعمار غزة، بعيدًا عن التجاذبات السياسية. كما حضر ممثلون عن مؤسسات مالية دولية كبرى، لدعم ما وصفه فالكونر بـ'خطة الإعمار العربية'.

وكان الوزير البريطاني قد أشار أيضًا إلى أن المحادثات هدفت إلى دراسة كيفية 'تأمين الموارد الهائلة المطلوبة، ليس فقط من خلال التمويل التقليدي من المانحين، بل أيضًا عبر التفكير بإبداع لجذب رؤوس الأموال الخاصة'. وأوضح أن بريطانيا في موقع مميز للمساعدة، بفضل 'خبرتها العميقة في مجال الاستثمارات الخاصة وصلاتها الوثيقة بمدينة لندن المالية'.

خلفية الحرب والدمار

خلفت الحملة العسكرية الإسرائيلية على غزة، التي بدأت عقب هجوم غير مسبوق لحركة حماس على جنوب إسرائيل في 7 أكتوبر 2023، دمارًا هائلًا في غالبية أراضي القطاع، وتسببت في تهجير معظم سكانه. الصور التي نشرتها وكالات الأنباء تظهر فلسطينيين يسيرون بين أنقاض المباني المدمرة، في مشهد يعكس حجم الكارثة الإنسانية، وفقًا لتغطية وكالة الصحافة الفرنسية.

تجدرالإشارة إلى أن المؤتمر الذي نظم في المملكة المتحدة لم يكن مجرد متابعة إنسانية، بل خطوة سياسية استراتيجية تهدف إلى وضع أسس 'إدارة فلسطينية مدنية' للقطاع، بعيدًا عن سيطرة حماس، وبدعم دولي منسق. وقد ناقش المشاركون نماذج حكم محلية، وآليات تمويل، وخطط أمنية، دون إصدار بيان ختامي رسمي، ما يعكس حساسية المرحلة واستمرار المداولات.

توازن دقيق بين السياسة والتمويل

وفقًا لموقع مالاي ميل، فإن الحكومة البريطانية تعمّدت إبقاء الحدث بعيدًا عن التغطية المباشرة، معتبرة أن 'المرحلة تتطلب تركيزًا على التفاصيل الفنية لا الاستعراضات الدبلوماسية'. هذا التوجه يعكس إدراكًا متزايدًا بأن إعادة إعمار غزة لا يمكن أن تكون مجرد حملة مساعدات، بل مشروع تنموي طويل الأمد يتطلب بنية مؤسسية، وقيادة فلسطينية قادرة على إدارة التمويل والمشاريع.

وفي هذا السياق، ناقش المؤتمر أيضًا سبل تعزيز التنمية الاقتصادية في غزة، بما في ذلك دعم المشاريع الصغيرة، وتطوير البنية التحتية الرقمية، وتحسين الوصول إلى الأسواق الإقليمية. فالكونر شدد على أن 'لدى غزة، وفلسطين بصورة عامة، إمكانات اقتصادية حقيقية'، داعيًا إلى التفكير خارج الصندوق في جذب الاستثمارات، وفقًا للإندبندنت.

غياب إسرائيل وحضور عربي لافت

اللافت في المؤتمر كان غياب رسمي إسرائيلي عن الجلسات المغلقة، وهو ما فُسّر بأنه محاولة لتجنب إحراج سياسي، خاصة أن بعض الدول الأوروبية اشترطت أن تكون إعادة الإعمار 'فلسطينية القيادة'. في المقابل، لعبت مصر والأردن دورًا محوريًا في التنسيق، بينما شاركت قطر وتركيا كمراقبين.

هذا التوازن بين الحضور العربي والدولي، وغياب إسرائيل، يعكس تحولًا في طريقة إدارة الملف الفلسطيني، حيث باتت الدول الغربية تدرك أن إعادة الإعمار لا يمكن أن تنجح دون تمكين الفلسطينيين أنفسهم من قيادة المرحلة.

ما بعد المؤتمر.. أسئلة مفتوحة

رغم أهمية المؤتمر، لم يصدر عنه بيان ختامي رسمي، ما يعكس حساسية المرحلة وتعقيداتها السياسية. لكن مجرد انعقاده بهذا المستوى من التمثيل الدولي، وفي هذا التوقيت، يشير إلى بداية حقيقية لمرحلة ما بعد الحرب، بعيدًا عن الشعارات، وبعيدًا عن كاميرات الصحافة.

ويطرح المراقبون عدة أسئلة في غاية الأهمية من بينها: هل تنجح هذه الجهود في تحويل غزة من ساحة حرب إلى ورشة بناء؟ وهل تستطيع القيادة الفلسطينية أن تتولى زمام الأمور وسط تحديات داخلية وخارجية؟ أم أن غياب التوافق السياسي سيُبقي طموحات الإعمار مجرد وعود مؤجلة؟