في لحظةٍ بدت فيها الأبواب مفتوحة نحو حوارٍ استثنائي بين موسكو وواشنطن، جاء الإعلان عن إلغاء اللقاء المرتقب بين الرئيس الأمريكي دونالد ترامب ونظيره الروسي فلاديمير بوتن ليقلب التوقعات رأسًا على عقب. فقد أكدت مصادر في واشنطن وموسكو، أن الاتصالات التمهيدية تعثرت بعد أسابيع من التفاوض حول جدول الأعمال، وأن الجانبين توصلا إلى قناعة مؤقتة بأن القمة “لن تحقق اختراقًا حقيقيًا في ظل التباينات القائمة”.

وبحسب صحيفة الجارديان البريطانية، فإن قرار التأجيل لم يكن وليد اللحظة، بل نتيجة تراكم ضغوط سياسية ودبلوماسية، خصوصًا بعدما فشل الوسطاء الأوروبيون في تقريب وجهات النظر حول الصيغة الممكنة لإنهاء الحرب في أوكرانيا.

وتشير الصحيفة إلى أن واشنطن كانت تسعى إلى اختبار نوايا موسكو بشأن هدنة مؤقتة، إلا أن الجانب الروسي تمسّك بمطالبه السابقة دون أي تعديل جوهري، ما دفع إدارة ترامب إلى تجميد مسار اللقاء برمّته.

رسائل سياسية متشابكة

تصف الجارديان هذا القرار بأنه “تراجع محسوب” من جانب ترامب، إذ لم يُرد الرئيس الأمريكي الظهور بمظهر الطرف المتلهّف للقاء، خصوصًا في ظل احتدام الانتقادات الداخلية بشأن موقفه من موسكو. كما أراد أن يوجّه رسالة مزدوجة: الأولى إلى الداخل الأمريكي، مفادها أنه لن يمنح بوتن منصة دبلوماسية مجانية قبل أن يُظهر الأخير استعدادًا فعليًا لتقديم تنازلات، والثانية إلى الخارج، مفادها أن الولايات المتحدة لا تزال صاحبة اليد العليا في ترتيب جدول الدبلوماسية الدولية.

وترى الصحيفة أن هذا النهج يعكس “مدرسة جديدة” في التفكير السياسي لدى إدارة ترامب، تقوم على الاستخدام الذكي للمسافة الدبلوماسية بدل التورط في لقاءات رمزية بلا نتائج. ومع ذلك، فإن تأجيل القمة لا يُخفي حقيقة أن التوترات بين واشنطن وموسكو بلغت مرحلة دقيقة، حيث تتقاطع المصالح في ملفات متعددة: أوكرانيا، سوريا، البحر الأسود، والغاز الأوروبي.

أوروبا في عين العاصفة

داخل القارة، تراقب العواصم الأوروبية الوضع بحذر. فالتراجع الأمريكي عن عقد القمة أثار قلق باريس وبرلين وبروكسل على حدّ سواء، إذ كانت أوروبا تراهن على اللقاء كفرصة لإطلاق مسار سلام تدريجي يخفف الضغط الاقتصادي الناتج عن الحرب.

وتنقل الجارديان عن دبلوماسي أوروبي قوله إن “القارة لم تعد تحتمل عامًا جديدًا من الجمود العسكري والاقتصادي”، مشيرًا إلى أن الإرجاء المتكرر للقاءات رفيعة المستوى بين القوى الكبرى يعرقل أي إمكانية لتفاهم حول مستقبل الأمن الأوروبي.

وفي هذا السياق، يعتبر الأوروبيون أن استمرار الغموض الأمريكي سيُضعف التنسيق داخل حلف الناتو، خصوصًا في ظل تباين مواقف الدول الأعضاء بشأن دعم أوكرانيا ماليًا وعسكريًا.

الحسابات الروسية

أما على الجانب الروسي، فترى موسكو في القرار الأمريكي محاولة لفرض شروط تفاوض مسبقة غير مقبولة. ووفق تحليل الجارديان، فإن الكرملين يدرك أن ترامب يريد تحقيق مكاسب سياسية داخلية من أي قمة محتملة، ولذلك يتعامل بحذر مع الدعوات الأمريكية، حتى لا يتحول اللقاء إلى عرض إعلامي أكثر منه حوارًا استراتيجيًا.

ومع ذلك، فإن روسيا تبدو مستفيدة جزئيًا من هذا التأجيل، إذ يمنحها الوقت لتثبيت مواقعها في شرق أوكرانيا وإعادة ترتيب علاقاتها الاقتصادية مع الصين وإيران والهند، بما يقلّل من أثر العقوبات الغربية.

الأبعاد الجيوسياسية الأوسع

لا يمكن النظر إلى هذا التطور بمعزل عن السياق العالمي الأوسع. فإلغاء القمة يأتي في لحظة تتزايد فيها التوترات في الشرق الأوسط، وتتصاعد فيها المواجهة الاقتصادية بين واشنطن وبكين، وتتحرك فيها أوروبا نحو مزيد من الاستقلالية عن القرار الأمريكي.

وترى الجارديان أن غياب التنسيق بين القوى الكبرى يهدد بعودة “منطق المعسكرات”، حيث يعيد كل طرف رسم تحالفاته بشكلٍ منفصل، دون وجود مظلة حوار دولي قادرة على امتصاص الصدمات.

ويشير تقرير الصحيفة إلى أن القلق الحقيقي في الأوساط الغربية لا يكمن في فشل عقد القمة نفسها، بل في الرسالة التي يبعثها ذلك الفشل: وهي أن العالم يدخل مرحلة جديدة من “التحالفات المتحركة” و”المصالح المؤقتة”، دون وجود توازن واضح بين الردع والحوار.

ما وراء الخبر: قراءة تحليلية

يبدو أن قرار التأجيل يعكس إدراك ترامب أن المفاوضات مع بوتن في هذه اللحظة لن تُفضي إلى نتائج ملموسة، بل ربما تُظهره بمظهر المتهاون. لكنه في الوقت نفسه يترك الباب مفتوحًا أمام لقاء لاحق بشروط أمريكية أكثر صرامة.

وترجح الجارديان أن هذا الأسلوب يأتي “تكتيكًا تفاوضيًا باردًا”، ويهدف إلى إبقاء موسكو في حالة ترقّب، وفي الوقت ذاته الحفاظ على وحدة الموقف الأمريكي أمام الداخل والخارج.

من جانب آخر، فإن بوتين يدرك أن الانتظار يخدمه أيضًا، إذ يمنحه فرصة لتقوية أوراقه الإقليمية. ومع كل شهرٍ يمر، يصبح المشهد العسكري والسياسي أكثر تعقيدًا، ما يجعل أي مفاوضات لاحقة أكثر تكلفة للولايات المتحدة.

دبلوماسية الانتظار

في نهاية المطاف، تخلص الجارديان البريطانية إلى أن إلغاء القمة ليس هزيمة لأي طرف، بل هو تعبير عن مرحلة انتقالية في العلاقات الدولية، حيث تحل البراغماتية محل الاندفاع، ويُدار الصراع بأساليب أكثر دهاءً، فقد أدرك كلٌّ من ترامب وبوتين أن اللقاءات الرمزية لا تصنع السلام، وأن التفاوض الحقيقي يبدأ عندما يكون كل طرف مستعدًا لتقديم شيء في المقابل.

وحتى ذلك الحين، ستظل العلاقة بين واشنطن وموسكو محكومة بسياسة “الانتظار الحذر”، حيث لا حرب معلنة، ولا سلام ممكن، بل مساحة رمادية تُدار فيها التوازنات بأعصابٍ باردة وحسابات دقيقة.