في مشهد مربك وغير مسبوق في الحياة القضائية والانتخابية منذ عقود، تفجر جدل واسع بين الهيئات والجهات القضائية المشاركة - أو المتهمة بالمشاركة - في الإشراف على المرحلة الأولى من انتخابات مجلس النواب 2025، وذلك بعد إعلان بطلان الانتخابات في 19 دائرة كاملة، نتيجة ما وصف رسميا بـ'الانتهاكات الجسيمة والخروقات الإجرائية'.

لكن الجديد هذه المرة لم يكن حجم الانتهاكات فقط، بل ما تبعها من تبادل للاتهامات بين الهيئات القضائية نفسها، نادي قضاة مصر ينفي الإشراف من الأساس، نادي النيابة الإدارية يرد بحدة، النادي البحري للنيابة الإدارية يشن هجوما غير مسبوق، فيما تدعو هيئة قضايا الدولة أعضائها إلى 'تجاوز الضجيج' وعدم الانخراط في السجالات.

بداية الانفجار: بيان نادي القضاة.. 'لم نشرف على الانتخابات'

الشرارة الأولى للأزمة خرجت من نادي قضاة مصر، الذي أصدر بيانا بدا — في مضمونه ولغته — حريصا على النأي بالنفس عن المشهد الانتخابي المضطرب.

جاء في البيان أن القضاة وأعضاء النيابة العامة لم يشرفوا على انتخابات 2025 التزاما بالدستور الذي قصر الإشراف القضائي على فترة انتقالية انتهت بالفعل.

ورغم أن البيان تضمن عبارات تقدير للهيئة الوطنية للانتخابات ولجهود النيابة الإدارية وقضايا الدولة، إلا أنه حمل ما اعتبر رسالة واضحة: 'نحن غير مسؤولين عما حدث'.

ووفق مصادر قضائية، فإن صياغة البيان حملت دلالتين أساسيتين: رغبة القضاة في إبعاد أنفسهم عن اتهامات الانتهاكات والتجاوزات التي فضحتها الطعون، وإشارة ضمنية إلى أن المسؤولية الانتخابية باتت تقع بالكامل على الهيئتين المكلفتين بالإشراف: النيابة الإدارية وقضايا الدولة.

غير أن هذه الصياغة أغضبت جهات قضائية أخرى، واعتبرتها 'تنصلا غير مبرر'.

الرد الأول.. نادي مستشاري النيابة الإدارية: 'قمنا بدورنا بنزاهة كاملة'

لم يمر بيان نادي القضاة مرور الكرام، فقد بادر نادي مستشاري النيابة الإدارية بإصدار بيان مضاد، قدم فيه ما يشبه المرافعة الدفاعية عن أعضاء النيابة الإدارية.

البيان بدا طويلا ومشحونا، وأكد أن الإشراف جرى 'بحياد كامل واحترافية عالية'، وأن إعادة الانتخابات في 19 دائرة 'غير ذات صلة بنزاهة الإشراف القضائي، وإنما بأسباب أعلنتها الهيئة الوطنية نفسها'.

وذهب البيان أبعد من ذلك، حين وضع المسؤولية — ولو ضمنيا — على الهيئة الوطنية باعتبارها الجهة التي أعلنت أسباب البطلان، لا على أداء أعضاء النيابة الإدارية.

هيئة قضايا الدولة تحاول تهدئة السجال.. لكنها لم تخف غضبها

في محاولة واضحة لاحتواء الأزمة، أصدر المستشار حسين مدكور، رئيس هيئة قضايا الدولة، بيانا داخليا لأعضائه — حصل 'الرئيس نيوز' على نصه —

دعا البيان أعضاء الهيئة إلى 'تجاوز الضجيج' و'عدم الالتفات للأقاويل المتداولة على السوشيال ميديا'، وأشاد بما اعتبره 'جهودًا مضنية' بذلها الأعضاء خلال الإشراف على المرحلة الأولى.

كما شدد البيان على العلاقة 'الراسخة' التي تربط الهيئات القضائية، تحت مظلة المجلس الأعلى للجهات والهيئات القضائية.

الانفجار الأكبر: بيان النادي البحري للنيابة الإدارية

لم يطل الوقت حتى خرج أكثر البيانات صدامية وحدة في تاريخ الهيئات القضائية: بيان النادي البحري للنيابة الإدارية.

البيان حمل عبارات قاسية وغير معتادة في الخطاب القضائي، إذ وصف بيان نادي القضاة بأنه 'نرجسي'، واتهم الهيئة الوطنية للانتخابات بالتقصير الفادح في تجهيز اللجان، وتجاهل احتياجات أعضاء النيابة.

النادي البحري — الذي يضم كافة أعضاء هيئة النيابة الإدارية — صعد لهجته بشكل لافت، مؤكدا أن أعضاء النيابة عملوا تحت 'ظروف لا إنسانية'، وصلت إلى 15 ساعة عمل يوميا، بلا تجهيزات لائقة، ولا وسائل انتقال مناسبة، ولا سكن ملائم.

كما اتهم البيان الهيئة الوطنية بـ'امتناعها' عن تسليم وكلاء المرشحين نموذج نتيجة الفرز، في مخالفة صريحة للإجراءات القانونية.

وفي هجوم مباشر على الهيئة، قال البيان: 'الغالبية العظمى من تشكيل الهيئة من قضاة المنصة، وكان ينبغي أن يتدخلوا لعدم ترك هذا الخلل'.

أزمة المال السياسي.. مسؤولية من؟

وفقا لقرار الهيئة الوطنية للانتخابات رقم 44 لسنة 2025، فإن لجان متابعة سير العملية الانتخابية — برئاسة رؤساء المحاكم الابتدائية — كان من ضمن اختصاصها مراقبة جرائم المال السياسي.

في المقابل وجه بعض المرشحين أصابع الاتهام للمال السياسي، مؤكدين أن اللجان لم تقم بدورها، رغم ما شهدته الدوائر من عمليات شراء أصوات علني ونقل جماعي للناخبين ورشى انتخابية مباشرة وتمويل غير مشروع لحملات كبرى.

وقال المصدر: 'المال السياسي لم يكن مجرد شبهة… بل كان حاضرا بكثافة.. وغياب التصدي له أدى إلى انهيار التوازن في المنافسة، ومهد لإبطال النتائج'، مشيرا إلى أن بعض رؤساء اللجان الفرعية 'لم يحرروا محاضر رسمية' رغم الشكاوى المقدمة لديهم.

أدى هذا المشهد المضطرب إلى نتيجة واحدة: إبطال الانتخابات في 19 دائرة كاملة، وتقديم أكثر من 200 طعن انتخابي على بقية الانتخابات بالكامل.

القرارات الصادرة عن الهيئة الوطنية بإعادة الانتخابات حملت حيثيات تشير إلى غياب مستندات الفرز واختلاف الأرقام بين اللجان العامة والفرعية شكاوى انتخابية لم تحقق وأخطاء جسيمة في إجراءات تأمين الصناديق.