الرصاصة التي اخترقت قلب الجنيه.. لماذا صار الحلقة الأضعف وماذا يجب فعله الآن؟

متابعات- نبض السودان

يبدو انهيار الجنيه السوداني ذروة مسار طويل من الاختلالات الهيكلية التي تعاظمت مع اندلاع الحرب في 15 نيسان أبريل 2023 إذ ورث الاقتصاد هشاشة عميقة خلفها نظام البشير بفعل العقوبات الدولية وانفصال جنوب السودان الذي انتزع معظم عائدات النفط ثم راكم سوء الإدارة الحكومية والفساد المؤسسي الأعباء على سوق العملة والأسعار بينما عطلت الحرب سلاسل الإمداد وأوقفت أنشطة إنتاجية رئيسية في الزراعة والصناعة بالتزامن مع توسع مالي غير مغطى بموارد حقيقية أجبر البنك المركزي على تمويل العجز عبر طباعة النقود بدلًا من انتهاج سياسة نقدية منضبطة فارتفع التضخم وانزلقت قيمة الجنيه إلى مستويات قياسية قال خبير اقتصادي إن محاربة الفساد وضبطه شرط لأي إصلاح لكن الحرب تظل العقبة الأساسية التي قد تفشل السياسات وتحد من فعاليتها.

صورة الاقتصاد بالأرقام

تشير بيانات البنك الدولي إلى أن الناتج المحلي الإجمالي الاسمي للسودان بلغ نحو 49.9 مليار دولار في 2024 بينما سجل الناتج الحقيقي نموًا سلبيا بنسبة 29.4 في المئة في 2023 و 13.5 في المئة في 2024 تقدير كما بلغ متوسط التضخم السنوي نحو 170 في المئة خلال 2024 مسجلًا 188 في المئة على أساس سنوي في ديسمبر من العام نفسه وفي الحسابات الخارجية اتسع عجز الحساب الجاري إلى نحو 12 في المئة من الناتج المحلي في 2024 وتقلصت القاعدة الضريبية مع تراجع الإيرادات إلى 4.7 في المئة من الناتج ما زاد الاعتماد على التمويل النقدي المولد للتضخم ووصل تقدير الفقر المدقع إلى نحو 71 في المئة في 2024 وهو مؤشر ضاغط على خيارات السياسة النقدية والمالية.

جذور أزمة الجنيه السوداني

يرى د قصي بابا أستاذ مساعد بجامعة الرباط الوطني في حديث لـ الترا سودان أن مسار الجنيه مر بثلاث مراحل متباينة أبرزها فترة انتعاش وحيدة بين 1997 و 2011 مع تصدير النفط حيث أدت الفوائض المالية من حصائل صادر النفط إلى زيادة الكتلة النقدية من العملات الأجنبية الداخلة للاقتصاد ويشير إلى أن الانخفاض الأول للعملة كان قبل إنتاج البترول وبدرجة أقل حدّة مما تلا انفصال الجنوب وذهاب معظم عائدات النفط بينما ظل القطاع الزراعي ضعيفًا فتَركز النمو في القطاع الخدمي ما ضاعف الضغط على الطلب الاستهلاكي والعجز في ميزان المدفوعات أما المرحلة الثانية فتمتد من ما بعد الانفصال إلى اليوم حيث ذهبت أغلب إيرادات النفط للجنوب بسبب تبعية معظم الحقول له جغرافيا فتراجع إنتاج البترول الذي كان يمثل النسبة الأكبر من الصادرات ومع ذلك شهدت هذه الفترة فترات تحسن محدودة بفعل زيادة إنتاج الذهب وصادراته من التعدين الأهلي وبفعل سياسات تحرير العملة التي رافقتها إصلاحات مالية ونقدية ساعدت نسبيًا في استقرار سعر الصرف وتقليص الفجوة بين السعرين الرسمي والموازي ويخلص إلى أن المشكلة الرئيسة طوال الفترات تمثلت في ضعف الإنتاج المحلي وضعف الصادرات وتنافسيّتها مع تركّز النمو في الخدمات وإهمال الزراعة إضافة إلى انتشار المضاربين والفساد وضعف الرقابة وغياب الرقمنة الاقتصادية الكفيلة بمتابعة المعاملات بسهولة، بحسب الترا سودان.

كيف حدث الانهيار

يؤكد صالح مصطفى الباحث في الاقتصاد السياسي والسياسات العامة في إفادة لـ الترا سودان أن العامل الأهم في انهيار الجنيه هو التوسع النقدي عبر طباعة الحكومة للنقود لتغطية احتياجات الحرب والمرتبات والإنفاق اللوجستي وصيانة البنية التحتية والكهرباء في ظل تراجع الإيرادات وانكماش الاقتصاد ويرى أن فقدان الجنيه لقيمته مرتبط أساسا بهذه السياسة إذ إن الحرب تزيد المنصرفات وتقلل الإيرادات فتضطر الحكومة للطباعة لسد العجز ويضيف أن الحكومة لا تملك الذهب إذ يسيطر القطاع الخاص على نحو 80 في المئة من السوق وأن عدم توفر موارد لشراء الذهب وتخزينه كغطاء نقدي يدفع إلى الطباعة بما يعمّق تدهور الجنيه ويشرح أن النموذج المثالي هو أن تستدين الحكومة من بنك السودان مقابل أصول صلبة مثل الذهب أو الدولار لكن ذلك غير متاح حاليا ما دفعها سابقا لرفع الدعم لتجنب الطباعة.

غير أن الحرب عقدت المشهد بزيادة النفقات وتراجع الإيرادات أما المضاربة والسوق الموازي فيعتبرهما مصطلحين فضفاضين أقرب للاستخدام السياسي مستشهدا بتجربة عهد البشير حين طُبعت النقود لشراء الوقود عبر السوق الموازي ثم اعتقل تجار العملة فانخفض العرض وارتفع الطلب وقفز الدولار ويخلص إلى أن أكبر مخرب للاقتصاد هو الطباعة الحكومية لأنها العامل المباشر الذي تملك الدولة مفاتيحه بسياساتها المالية والنقدية ويشير إلى أن بعض الإجراءات الحكومية الأخيرة تبدو إيجابية ظاهريا لكنها تتجنب أصل المشكلة المتمثلة في التوسع النقدي معتبرا أن تنظيم الصادر قد يثمر على المدى الطويل لكن لا شيء يوقف التضخم على المدى القصير سوى كبح الطباعة ووضع سقوف منطقية للعرض النقدي تتسق مع ضعف الصادرات والإنتاج وحاجات الإنفاق العام كالإمدادات الفنية والتقنية والعسكرية وتعويضات البنية التحتية ويختم بأن الجديد الذي سرّع الانهيار هو تمويل العجز مباشرة بالنقود موضحا أن الاستيراد حتى في قطاع السيارات أثره محدود على التضخم وسعر الدولار لأن المستوردين يتعاملون بأموال حقيقية لا مطبوعة.

إجراءات عاجلة على المسار النقدي والمالي

تقول د وجدان الهادي أستاذ مساعد بجامعة الرباط الوطني لـ الترا سودان إن مواجهة الانهيار تتطلب سياسات نقدية ومالية عاجلة في مقدمتها منع التمويل بالعجز ورفع أسعار الفائدة لتقليل الكتلة النقدية إلى جانب تجميع الموارد من النقد الأجنبي عبر البنوك وتحديد سعر واقعي قريب من السوق الموازي وتدعو إلى تقييد استيراد السلع الكمالية مؤقتا لتقليل الطلب على الدولار وتشجيع الصادرات مثل الصمغ العربي والذهب والماشية وضبط التهريب وتحفيز تحويلات المغتربين وملاحقة السوق الموازي غير المنظم وفتح قنوات رسمية لجذب التعامل وتؤكد أن هذه التدابير قد تبطئ الانهيار مؤقتا وتمنح الحكومة فرصة لشروع أعمق في إصلاحات لزيادة الإنتاج وجذب الاستثمار وتنويع الاقتصاد.

ضبط التجارة والذهب والبنية التنظيمية

يرى الخبير الاقتصادي د نور الدين عبد الفتاح في حديثه لـ الترا سودان ضرورة إجراءات عاجلة لوقف تدهور قيمة العملة تشمل ضبط الاستيراد بمنع دخول البضائع دون استيفاء الضوابط المصرفية والتجارية وحظر السلع غير المطابقة للمواصفات المعتمدة مع مكافحة التهريب بتفعيل دور قوات مكافحة التهريب وتزويدها بالوسائل اللازمة واعتبار حيازة أو تخزين الذهب دون مستندات رسمية جريمة تهريب ويشدد على تنظيم تجارة الذهب عبر حصرها في جهة حكومية واحدة لتوفير النقد الأجنبي مع إنشاء منصة رقمية قومية لتتبع حركة الواردات والصادرات ومراجعة قرارات استيراد السيارات وسياسة الصادرات لإزالة العقبات التي تعيق زيادتها وفي هذا السياق وبحسب تقرير إحصاءات التجارة الخارجية للفترة من  يناير إلى ديسمبر 2024 بلغ حجم تصدير الذهب نحو 22.92 طنا بقيمة تقارب 1.57 مليار دولار بينما تشير بيانات شركة الموارد المعدنية إلى تصدير 27.96 طنا بقيمة نحو 1.59 مليار دولار وذكرت مصادر رسمية أن إيرادات تصدير الذهب بلغت حوالي 1.5 مليار دولار حتى أكتوبر 2024 مقابل 26 طنا صدرت رسميا في حين يُقدّر الإنتاج الفعلي بما يزيد على 50 طنا ما يعكس وجود تهريب كبير.

ما الذي ينبغي تعديله فورًا في سوق الصرف

يقترح د قصي بابا أن يبدأ العلاج بالدواء من جنس مسببات الداء أي معالجة ضعف الإنتاج المحلي خصوصا في الزراعة والصناعة ويرى أن الإجراءات العاجلة يجب أن تستهدف إيقاف أو تقليل حدة وتسارع انخفاض الجنيه لإحداث استقرار نسبي لسعر الصرف عبر تحرير سعر الصرف تماما وتعزيز دور منصة التجارة الخارجية التابعة لبنك السودان المركزي ورفع الرسوم الجمركية بصورة كبيرة على السلع الكمالية كما يدعو إلى توحيد منصة إلكترونية واحدة تابعة للبنك المركزي لصادرات وواردات الذهب ومنع التداول خارجها نهائيا مع تطوير منصة موحدة للمدفوعات الإلكترونية تُلزم بها البنوك والمتاجر للحد من تداول العملة الورقية وتقليل أثر العملات المزورة في شراء النقد الأجنبي

إصلاحات طويلة المدى لبناء القدرة الإنتاجية

يوضح د قصي أن هدف السياسات الطويلة الأجل هو وقف التدهور ثم تحقيق زيادة في قيمة الجنيه مشددا على أن الرقمنة الشاملة للاقتصاد ضرورة بدءا بالحكومة الإلكترونية والأسواق الإلكترونية وربط المعاملات بالرقم الوطني بما يسهل تتبع العمليات ويكبح الفساد ويؤكد أن الأولوية ينبغي أن تُمنح للقطاع الزراعي بتنويع منتجاته وصادراته ووقف تصدير المواد الخام عبر إنشاء شركة مساهمة عامة حكومية تقيم قرى ومشاريع زراعية تؤجر للشباب على غرار تجربة الصين مع خلق شراكات دولية لابتكار محاصيل نقدية عالية العائد وتشجيع الصناعات التحويلية الزراعية عبر الإعفاءات الجمركية والضريبية وتسهيل التمويل كما يشدد على توحيد نظم الاستثمار الأجنبي المباشر وتفعيل صيغ الشراكة بين القطاعين العام والخاص

بين الداخل والخارج أين يأتي الإنقاذ

يذكر د نور الدين عبد الفتاح بالتوصيات الاقتصادية العامة مشددا على ضبط الإنفاق العام وتقليص الإنفاق غير التنموي لصالح الصرف التنموي ووضع سياسة واضحة وثابتة لأسعار العملات المحلية مع معالجة عدم التوازن في الاقتصاد الكلي عبر إصلاحات هيكلية وسياسات ملائمة وترى د وجدان الهادي أن حل إنقاذ الاقتصاد أساسه داخلي يشمل إصلاح السياسة المالية وضبط الإنفاق ومحاربة الفساد وزيادة الإنتاج المحلي في الزراعة والتعدين والصناعة التحويلية لخلق موارد حقيقية من النقد الأجنبي إلى جانب إصلاح النظام المصرفي ليصبح قادرا على جذب مدخرات المواطنين في الداخل والخارج ومع ذلك ترى أن التدخل الخارجي لا بد منه ليكمل الحل الداخلي في ظل الحرب وضعف البنية التحتية وعجز الموازنة عبر ودائع الدول الصديقة في البنك المركزي وإعفاء الديون وتشجيع الاستثمار الأجنبي خاصة في الزراعة والتعدين والطاقة فضلًا عن الدعم الفني والتقني والرقمنة التي تقلل الفساد وتمنعه.

خلاصة المسار الممكن

تتشابك أزمة الجنيه مع تحديات هيكلية حادة تفاقمت بالحرب من تضخم مرتفع وعجز مزمن في الميزانية وضعف إنتاجي وتراجع ثقة في أدوات السياسة العامة وتجمع آراء الخبراء على أن إجراءات قصيرة الأجل قد توفر إبطاءً للانهيار وتفتح نافذة لاستعادة بعض الاستقرار لكن الإصلاح الحقيقي لن يتحقق دون مسار مزدوج يبدأ بوقف الحرب كأولوية لا غنى عنها ثم يتدرج نحو بناء قاعدة إنتاجية قوية ومحاربة الفساد وتحديث النظام المصرفي وتوسيع الرقمنة وتنويع الاقتصاد مع الاستفادة من دعم خارجي مكمل لتعزيز الاحتياطيات وتحفيز الاستثمار