اخبار السودان
موقع كل يوم -اندبندنت عربية
نشر بتاريخ: ١ تشرين الثاني ٢٠٢٥
حيث لا تزال رائحة البارود تتسلل مع أنفاس الصباح صار اقتناص فنجان قهوة حلماً صغيراً في زمن جريح
في السودان، حيث لا تزال رائحة البارود تتسلل مع أنفاس الصباح، صار اقتناص فنجان قهوة حلماً صغيراً في زمن مثقل بالحرب. لم تعد القهوة التي تعرف محلياً بـ'الجَبَنة' نسبة إلى الإناء الذي تقدم فيه، مجرد طقس يومي، بل تحولت إلى رمز للمقاومة الهادئة، وترف بسيط يطارده الناس بين أصوات المدافع وانقطاع الكهرباء وندرة البن.
في المدن التي هدأ فيها الصراع قليلاً يعود بعض الناس لمقاهيهم كما لو أنهم يستعيدون جزءاً من حياتهم القديمة، يجلسون على المقاعد الخشبية المصنوعة من جذوع الأشجار المعروفة بـ'البنابر'، يتبادلون الأخبار والأنين، ويرتشفون ما تبقى من دفء الأيام التي كانت القهوة فيها مجرد طقس جميل لا أمنية بعيدة.
وفي قلب الجامعات، وبين جدرانها التي أصابها الصمت بعد أن غادرها كثير من طلابها، تحاول القهوة أن تكون حاضرة كأنها تعويض عن كل ما غاب. يجتمع الشباب في زوايا المبنى الجامعي أو قرب 'ست الشاي'، يتقاسمون فناجين صغيرة من القهوة المحلاة، يتحدثون عن أحلامهم المعلقة، وعن مستقبل يبدو بعيداً لكنه لا يزال ممكناً. صارت القهوة بالنسبة إليهم فعل بقاء، وسلاحاً ضد الانطفاء، تعيد لهم الإحساس بالحياة وسط الخراب. فكل رشفة منها هي مساحة حرية موقتة، ومقاومة ناعمة لواقع قاس.
أما 'ستات الشاي'، فهن اليوم ذاكرة الحرب وملحها. على الأرصفة التي لم تمح منها بعد آثار القصف، يواصلن إعداد القهوة بمهارة تشبه الإصرار. وجوههن التي لفحتها الشمس، وأياديهن التي لا تعرف التوقف، أصبحت رمزاً لصمود النساء السودانيات اللاتي حولن المقهى الشعبي إلى خيمة للنجاة، وإلى مكان يلتقي فيه المارة والنازحون والمهمومون على رائحة البن. هكذا غدت القهوة السودانية بعد الحرب، لا تقدم في فناجين فحسب، بل تسكب من قلوب تبحث عن الأمان. في زمن تقاس فيه الأيام بعدد الانفجارات لا بالساعات، تبقى القهوة لغة مشتركة بين الجميع. هي الذاكرة التي لم تقصف، والدفء الأخير في بلد لا يزال يكتب تاريخه برائحة البن وصوت الحرب.
لا يمكن الحديث عن القهوة من دون المرور عبر تاريخ طويل من الطقوس والعادات والمقاهي التي كانت مرآة لتحولات المجتمع ووعيه الجمعي، فمنذ أن عبر البن حدود إثيوبيا في القرن الـ15 واستقر في أرض السودان، وجد في تربتها ومزاج ناسها موطناً جديداً. هناك، في الأسواق القديمة وعلى ضفاف النيل، ولدت حكاية المقاهي التي غدت لاحقاً مسرحاً للسياسة والأدب والجدل الشعبي، ومتنفساً لطبقات المجتمع المختلفة. من بين أقدم المقاهي التي حفظت ذاكرة البلاد مقهى أم درمان العتيق الذي أنشئ في أربعينيات القرن الماضي في قلب السوق الكبيرة، وكان ملتقى المثقفين والزعماء الوطنيين قبل الاستقلال. وفي الخرطوم، برزت مقاهي أحياء الخرطوم 2 والعمارات والديوم، وكافتيريا البرلمان كمحطات يومية للصحافيين والمفكرين والطلاب، يناقشون قضايا الهوية والوحدة والفن، بينما ظل مقهى البحر الأحمر في بورتسودان حلقة وصل بين التجار والبحارة القادمين من اليمن والحجاز، بما حملوه من قصص وأهازيج ومذاقات مختلفة للبن.
وفي ود مدني، المدينة التي تلقب بعاصمة الذوق الهادئ، لمع اسم مقهى النيل الأزرق، حيث كانت فناجين البن تقدم على أنغام أغنيات الحقيبة، فيما احتفظ مقهى القبة بمكانته كملتقى للتجار والموظفين. أما في الأبيض، عاصمة كردفان، فقد ازدهر مقهى عروس الرمال، المسمى على اسم المدينة، ومقهى البوستة منذ خمسينيات القرن الماضي، فكانا فضاء للحوار الوطني ومكاناً يلتقي فيه التجار والمعلمون والطلاب.
الجامع بين كل هذه المقاهي، هو البن الذي يجلب من المرتفعات الإثيوبية عبر القلابات والقضارف، ويحمص على الجمر ويعد يدوياً بروح من الألف ويمزج بالزنجبيل. واليوم، على رغم تراجع بعض المقاهي القديمة، ما زالت تلك الفضاءات من أم درمان إلى بورتسودان تحفظ نبضها الخاص، وتقدم في كل فنجان ذاكرة تعبق بتاريخ السودان وروحه التي لا تخمد.
تشير الإحصاءات إلى أن استهلاك القهوة في السودان شهد تقلبات ملاحظة في السنوات الأخيرة، ففي عام 2021 بلغ متوسط استهلاك الفرد من القهوة 0.190 كيلوغرام، مسجلاً انخفاضاً بنسبة 88.4 في المئة مقارنة بالعام الذي سبقه، بحسب 'مكتبة هيليغي' للبيانات في براغ. ويعكس هذا التراجع الحاد تأثير الأزمات الاقتصادية والسياسية في أنماط الاستهلاك، فعلى رغم هذا الانخفاض لا يزال السودان يحتفظ بمكانة بارزة في استهلاك القهوة على مستوى القارة الأفريقية. وفقاً لتقرير صادر عن 'وورلد بيبيوليشن ريفيو' لعام 2025، فقد بلغ متوسط استهلاك القهوة في السودان 1.31 كيلوغرام للفرد سنوياً.
وأورد المرصد الاقتصادي (OEC) التابع لمعهد 'ماساتشوستس' للتكنولوجيا أنه 'على الصعيد التجاري، استورد السودان قهوة بقيمة 151 مليون دولار أميركي عام 2023، مما يجعله من بين أكبر 50 دولة مستوردة للقهوة عالمياً'. و'تتراوح أسعار استيراد القهوة المحمصة إلى السودان في عام 2023 بين 2.62 و3.81 دولار أميركي للكيلوغرام، مما يشير إلى تقلبات في الأسعار تؤثر في كلفة الاستيراد والقدرة الشرائية للمستهلكين'.
وعلى رغم الظروف الاقتصادية الصعبة التي يمر بها السودان بسبب الحرب، فإن الطلب على القهوة ظل ثابتاً، مما يعكس استمرار ارتباط المجتمع السوداني بهذا المشروب كجزء من ثقافته اليومية. ويظهر استمرار استيراد القهوة في ظل الظروف الراهنة تمسك المجتمع السوداني بالقهوة وطقوسها كجزء من العادات والتقاليد، وتظل القهوة جزءاً أساسياً من الحياة الاجتماعية والثقافية في السودان، إذ تعد رمزاً للضيافة والتواصل الاجتماعي.
يقول الناشط السياسي حسين سر الختم إن 'المقهى أكثر من مجرد مكان للجلوس، فهو أشبه بمنتدى شعبي تعقد فيه جلسات نقاش غير معلنة بين المثقفين والطلبة والناشطين. في الخرطوم ومدني وأم درمان كان المقهى ولا يزال بديلاً عن المنابر التي أغلقت والندوات التي صودرت. ففيه يناقش الواقع السياسي في لغة مشوبة بالمزاح، إذ تتحول السخرية إلى سلاح نقدي، والرمز إلى وسيلة آمنة لقول كل شيء من دون إفصاح'.
وأضاف سر الختم 'في مقاهي أم درمان القديمة كانت أجيال من اليساريين والليبراليين والمستقلين تلتقي في مساحة واحدة، لا يسأل أحد فيها الآخر عن انتمائه بقدر ما يختبر عمق حجته، ومن خلف فناجين البن تتكون ملامح الوعي العام، إذ يتداول الشباب أحاديث الحرب والسلام، والاقتصاد والسيادة، والديمقراطية المفقودة. وفي بقية أقاليم السودان، حيث خف ضجيج السياسة لكن لم تخفت جذوتها، تحول المقهى إلى أرشيف حي لتاريخ الحراك الطلابي والنقاشات التي سبقت كل موجة احتجاج'.
وتابع 'المقاهي لا تزال مساحات لالتقاط اللأنفاس يومياً بين الحرب والسلام، حيث يختلط النقاش بالأنين، وتصبح القهوة وسيلة لاستعادة بعض الهدوء في مدن أنهكتها الحرب. هناك يروي الحضور قصص النزوح والدمار، كما يناقشون بصوت منخفض مآلات السلطة وأخبار المفاوضات والسلام. وعلى طاولة البن ووسط ضجيج المراوح القديمة وفناجين القهوة الصغيرة، يدار الجدل حول الدولة والهوية، وحول ما تبقى من شعارات الثورة وما تبعثر من أحلامها، ويتطور إلى جدل محتدم بين مؤيدين ومعارضين لأي من طرفي النزاع'.
وفي رأي الناشط أن 'المقهى في السودان تجاوز وظيفته التقليدية فصار مرآة للوعي الشعبي ومختبراً لتحولات المجتمع. بين فنجان قهوة وآخر تتشكل الأفكار وتعاد صياغة الأسئلة الكبرى. ولعل المدهش أن كثيراً من النقاشات التي بدأت همساً في المقاهي كانت بذوراً لحراك سياسي حقيقي يعيد تأكيد أن التغيير في السودان كثيراً ما يبدأ من طاولة القهوة (الجبنة)'.
ذكرت الباحثة الاجتماعية إيمان خوجلي أن 'القهوة عند السودانيين ليست مجرد مشروب، بل هي طقس اجتماعي وعادة ضاربة في عمق التاريخ والثقافة. ففي شرق السودان، مهد البن الأول وعشقه الأزلي، تنبض القهوة في تفاصيل الحياة اليومية كما تنبض القلوب بحنينها. فهي رمز الكرم والأنس، ومناسبة يجتمع حولها الأهل والأصدقاء لتبادل الأخبار ومسامرة الهموم ومداواة الأرواح'.
وأضافت 'للقهوة عند مجتمعات شرق السودان طقوس دقيقة ولغة خطاب معبرة، فمثلاً عند الصباح يتردد في الأفق صوت مدق البن (الهون) كنبض يومي يعلن حياة البيوت. وإذا خلا بيت من هذا الصوت فذلك يعني أن أصحابه معدمون، ولهذا قد يدق بعضهم الهون خالياً من البن صوناً للكرامة'.
وتابعت الباحثة الاجتماعية 'عندما كنت في الخرطوم، كنت أرتشف قهوتي بين ستات الشاي، وأتابع من بعيد همس السياسة وأحاديث الأدب والموسيقى. كانت تلك الجلسات الصغيرة على (البنابر) أشبه بمسرح شعبي للوعي، حيث تمتزج رائحة البن بالحديث عن حال البلد. واليوم، أنا ضمن لاجئين كثر نجد أنفسنا في بلد اللجوء نستعيد تفاصيل المقاهي في الوطن، ونقارن بين أثرها هنا وهناك'.
وأفادت 'كانت الأغاني الشعبية تمجد القهوة كرفيقة السهر والبوح، فهناك الأغنية التراثية التي تنتمي إلى شرق السودان (صبي الجبنة يا بنية في ضل الضحوي). وفي الشعر كثيراً ما وردت كاستعارة للحزن الجميل. قيل إن الشاعر مصطفى سند كتب في مرثيته عن وفاة الشاعر والدبلوماسي السوداني صلاح أحمد إبراهيم، وكلاهما من رواد مدرسة (الغابة والصحراء) ومن المجددين في الشعر، (هو قهوة الضحى من بن يمني بهبهان زنجباري عند ضريح الميرغني والشريفة المريم وأهل الضريح)'.
وأوضحت خوجلي 'كل هذه الاستعارات تنتمي إلى شرق السودان، أما قهوة الضحى في العرف السوداني فهي مصطلح يستخدم في الأوساط السودانية بمعنى الجلسة التي تعقد عند منتصف الفترة الصباحية، حين تهدأ الحركة وتبدأ الأحاديث وتفتح فيها أبواب النقاش'.
في السودان، القهوة أكثر من مشروب، إنها طقس يختزل التاريخ ويترجم التنوع الاجتماعي والثقافي في رائحة البن الممزوجة بالهيل والزنجبيل. قبل الحرب، كانت 'ستات الشاي' تحتشد في أزقة المدن والقرى، يقدمن فناجين القهوة السودانية على 'البنابر' المصنوعة من جذوع الأشجار، في مشهد يفيض بالأنس والدفء الاجتماعي، إذ تمتزج الأخبار اليومية بالنكات والحكايات الشعبية. كانت القهوة تلم الجميع، المثقف والطالب والتاجر، وفي كل فنجان قصة عن الوطن وتاريخه.
ليست هناك اختلافات كبيرة في طقوس القهوة، فبورتسودان وبقية المدن الساحلية مثل الخرطوم وإقليم الجزيرة وغيره، تحضر القهوة في جلسات طويلة تبدأ بتحميص البن على النار، ومن ثم دقه في الهون، وسكبه في 'الجبنة' الفخارية وسط عبق بخور اللبان. الفنجان هنا ليس مجرد مشروب بل أداة للتلاقي الاجتماعي، وللتعبير عن الكرم والضيافة. جلسات القهوة ترتبط بالاستماع والحوار الهادئ، وكل رشفة تتيح فرصة للتفكير والتأمل بعيداً من صخب الحياة اليومية.
وحتى بعد أن أصبحت القهوة تتخذ طابعاً حضرياً أكثر حيوية، صارت المقاهي منصات للنقاش، حيث يلتقي الناس، يتبادلون الأخبار ويثرثرون عن السياسة والفن والمجتمع. المزاح والرموز الحية تصبح أدوات للتعبير عن الرأي، وتفتح المجال للحوار بين ألوان مختلفة من الانتماءات الفكرية والسياسية.
الآن، الحرب لم تقض على القهوة على رغم تقليص طقوسها الاجتماعية إلى الحد الأدنى، إذ انحصرت في إطار الأسر أكثر من المقاهي العامة. هذا الغياب ترك فجوة عميقة، وحول المقهى من فضاء نابض بالحياة إلى مشهد يذكر بالغياب والفراغ. ولا يزال الناس، على رغم الدمار والشتات، يلتقطون ما تبقى من تلك اللحظات، يحاولون إعادة إنتاجها في المقاهي الجديدة في الغربة أو في المدن التي بدأت تدب فيها الحياة. القهوة هنا تتحول إلى طقس للتشبث بالوجود، ومساحة للأفكار المبعثرة، ومتنفس للشجن. ذاكرة 'الجبنة' بعد الحرب ليست مجرد سرد للأحداث، بل شهادة على قدرة السودانيين على التشبث بالحياة.


























