اخبار السودان
موقع كل يوم -اندبندنت عربية
نشر بتاريخ: ٧ تشرين الأول ٢٠٢٥
فشل التسوية أقرب النتائج نظراً إلى غياب الثقة بين الجيش و'الدعم السريع' وتشتت القوى المدنية واستمرار النزاعات القبلية المتفرعة
تبدو الحرب في السودان اليوم كجرح مفتوح في الجسد الوطني، لا يندمل مهما تعددت محاولات تضميده، إذ تلاقت فيه خيبات التاريخ مع هشاشة الحاضر، وتراكمت فوقه رهانات القوى المتصارعة حتى صار المشهد السياسي والاجتماعي أكثر تعقيداً من أي وقت مضى، فمنذ اندلاعها في الـ15 من أبريل (نيسان) 2023، تعاقبت المبادرات والمساعي، من جدة إلى أديس أبابا، ومن وساطات الاتحاد الأفريقي إلى الأمم المتحدة، لكنها جميعاً اصطدمت بجدار الاستقطاب الحاد، وبواقع الانقسامات العميقة التي مزقت المجتمع السوداني بين ولاءات جهوية وقبلية، وبقيت جذور الأزمة، كما هي، بلا معالجة حقيقية.
أثبتت التجارب السابقة أن المقاربات الجزئية والمبادرات التي اكتفت بترتيبات سياسية أو أمنية موقتة، دون معالجة بنية السلطة، أو إعادة تعريف العلاقة بين المدنيين والعسكريين، سرعان ما انهارت تحت وطأة الصراع على النفوذ والثروة، ومع كل جولة تفاوض جديدة، يتبدى أن ما يحتاج إليه السودان ليس مجرد تسوية تضع الحرب في 'هدنة موقتة'، بل رؤية تتجاوز المنطق القديم الذي جعل من السلاح أداة للشرعية، ومن الاتفاقات الموقتة وسيلة لتقاسم الغنائم.
وفي هذا السياق، مثّل إعلان خريطة طريق الرباعية في الـ12 من سبتمبر (أيلول) الماضي التي صاغتها الولايات المتحدة بالتعاون مع السعودية والإمارات ومصر نقطة تحول رمزية، إذ تجمع بين الفاعلين الأقرب إلى طرفي الصراع، والقوة الدولية الأكثر تأثيراً في الملف السوداني، وعلى رغم أن الخطة بدأت بدعوة إلى هدنة إنسانية لثلاثة أشهر، فإنها فتحت الباب لنقاش أعمق حول مستقبل الدولة، وإمكانية إطلاق عملية سياسية بقيادة سودانية خالصة.
غير أن هذه الخريطة، مهما بلغت طموحاتها، ستظل ناقصة ما لم ترافقها مقاربة جديدة تتجاوز منطق المقايضات بين الجنرالين، وتستند إلى شراكة وطنية حقيقية تعيد بناء الثقة بين المكونات السودانية، وتكسر احتكار العنف والترويع، فالتجارب المماثلة في أفريقيا والشرق الأوسط، كما حذر خبراء التنمية والنزاعات مثل بول كولير، أظهرت أن السلام القائم على تقاسم الثروة دون إصلاح بنية الحكم لا يصمد طويلاً، ومن ثم، فإن تجاوز المقاربات السابقة لم يعد ترفاً فكرياً، بل ضرورة وجودية، لأن البديل الوحيد هو استمرار التآكل البطيء للدولة، وتحويل السودان إلى جغرافيا للصراع المفتوح بلا نهاية.
تتجذر الأزمة السودانية الحالية في مسار تاريخي متداخل، حيث ظل الجيش مؤسسة مركزية منذ الاستقلال عام 1956، وارتبط تاريخه بسلسلة من الانقلابات، بدءاً من استيلاء الفريق إبراهيم عبود على السلطة عام 1958، مروراً بانقلاب جعفر النميري عام 1969، ثم انقلاب عمر البشير عام 1989 الذي حكم البلاد ثلاثة عقود بقبضة أمنية مركبة من الجيش والأجهزة الموازية، خلال هذه العقود، كان الجيش أداة سياسية بقدر ما كان مؤسسة عسكرية، مما أضعف حياده وأفقده شرعية كاملة في نظر كثير من السودانيين.
أما قوات 'الدعم السريع'، فهي وريثة لميليشيات 'الجنجويد' التي لعبت دوراً محورياً في حرب دارفور منذ عام 2003، وقد تحولت إلى قوة شبه نظامية بقرار من البشير عام 2013، ثم توسع دورها لاحقاً في حماية النظام ومصالحه الاقتصادية، لا سيما في قطاع الذهب.
مع سقوط البشير في أبريل 2019 إثر انتفاضة شعبية، ظهر الأمل في انتقال مدني يقود السودان إلى مرحلة جديدة، غير أن مجزرة ميدان الاعتصام بالقيادة العامة للقوات المسلحة في يونيو (حزيران) 2019، التي راح ضحيتها مئات المتظاهرين، أعادت إلى الواجهة التحالف غير المعلن بين الجيش و'الدعم السريع' في مواجهة القوى المدنية، وفي أغسطس (آب) من العام نفسه، جرى توقيع الوثيقة الدستورية لتقاسم السلطة، لكنها كانت اتفاقاً هشاً، إذ أبقت على ازدواجية القوة بين الجيش و'الدعم السريع' دون حل جذري لمسألة الدمج العسكري.
بعد ذلك، مثَّل اتفاق 'الإطار السياسي' الموقع في ديسمبر (كانون الأول) 2022 آخر محاولة لإعادة ضبط العلاقة بين الطرفين، برعاية إقليمية ودولية، لكنه فشل في التوصل إلى توافق في شأن جدول دمج القوات، فانفجرت التناقضات في أبريل 2023، لتتحول الخرطوم إلى ساحة حرب مفتوحة، ويمتد القتال إلى ولايات الجزيرة ودارفور وكردفان.
تتجاوز انعكاسات الحرب الحالية الخراب المادي إلى ما هو أعمق، فقد شهد السودان تفكك النسيج الاجتماعي، ونزوح الملايين ولجوءهم، وانهيار البنية الخدمية للدولة، حتى العاصمة، رمز السيادة الوطنية، تحولت إلى مدينة أشباح تنهشها المعارك، بهذا المعنى، لا تقتصر الأزمة على صراع نفوذ بين طرفي النزاع، بل تعبر عن فشل تاريخي في بناء دولة قادرة على استيعاب تنوعها وضبط تناقضاتها.
تجسد خريطة الطريق لدول 'الرباعية' مقاربة تنطلق من الحاجة إلى هندسة دقيقة لمعادلات القوة والمصلحة، وصولاً إلى مرحلة انتقالية تعيد ترميم الشرعية المدنية في غضون تسعة أشهر، وفق هدف معلن، كما تصفه الوثيقة هو خلق ما يمكن تسميته بـ'المأزق الإيجابي'، الذي يجبر طرفي النزاع على التفاوض من موقع العجز عن الحسم العسكري، لا من موقع القوة أو الانتقام.
تقوم الخريطة على ثلاثة محددات رئيسة، أولها الجمع بين التهدئة العسكرية والاستجابة الإنسانية كأداة لاستعادة الثقة، وثانيها صياغة جدول زمني قابل للقياس، يحول الهدنة إلى عملية مؤسسية تتقدم بموجب مؤشرات واضحة، أما ثالثها فهو خلق غطاء إقليمي ودولي متوازن، يجمع النفوذ العربي مع التأثير الغربي.
لكن بين الطموح والتنفيذ فجوة واسعة، فقد تصطدم الخطة، كما اصطدمت سابقاتها، بمشكلات بنيوية تتمثل في بعض التباين بين مواقف الدول مما يهدد بإنتاج أخطار الاستقطاب بدلاً من إلغائها، وكذلك غياب آليات تنفيذية رادعة على الأرض، مثل قوة حفظ سلام محايدة أو آليات مراقبة متفق عليها، مما يعرض الهدنة للانهيار عند أول خرق، هناك أيضاً محاولات جهات داخلية إثارة بعض الشكوك حول خريطة طريق 'الرباعية' باعتبارها عرضة لإعادة إنتاج هيمنة دولية أو مصالح إقليمية على حساب مطالب العدالة والتحول المدني.
وفي ضوء هذا التباين، رحبت مؤسسات إقليمية مثل الاتحاد الأفريقي و'إيغاد' بالخطة، لكنها شددت على ضرورة توسيع المشاركة لتشمل طيفاً أوسع من القوى السودانية حفاظاً على شرعية داخلية، هذا المزيج من الطموح الخارجي وحدّة العراقيل الداخلية يجعل نجاح الخريطة مرهوناً بقدرة الضامنين على تحويل الضمانات الكلامية إلى آليات تنفيذ ملموسة، وباستعداد الفاعلين السودانيين لقبول صيغة توازن بين الضمانات الدولية والمتطلبات الوطنية.
لا يزال السودانيون، في خضم هذه الحرب المستمرة، أسرى لنموذج كلاسيكي في هندسة السلام الدولي يعود إلى تسعينيات القرن الماضي، نموذج وُلد في حقبة ما بعد الحرب الباردة، حين كانت الأمم المتحدة والمؤسسات الغربية الكبرى تصوغ تسويات ما بعد النزاع على قاعدة واحدة، وإيقاف إطلاق النار عبر إدماج الفصائل المسلحة في ترتيبات لتقاسم السلطة، ثم فرض مسار انتقالي نحو انتخابات شكلية تُنتج استقراراً هشاً، هذا النموذج، الذي جُرب في أنغولا وليبيريا والبوسنة وجنوب السودان لاحقاً، لا يزال يُستخدم في الحال السودانية على رغم ثبوت محدوديته في معالجة الأزمات المركبة التي تتشابك فيها البنية العسكرية بالاجتماعية والسياسية.
انزلق السودان، مرة أخرى، إلى فخ هذا النمط المكرر، حين اختُزلت العملية السياسية في محاولات لعقد هدنة بين الجيش وقوات 'الدعم السريع'، تُتبع بتقاسم للسلطة والثروة، من دون إصلاح حقيقي في هيكل الدولة أو إعادة تعريف للشرعية، وهو النهج ذاته الذي اعتمدته اتفاقات نيفاشا عام 2005، وأبوجا عام 2006، والدوحة عام 2011، وجوبا عام 2020، حيث أُدخلت الفصائل المسلحة إلى معادلة الحكم تحت شعار 'السلام الشامل'، بينما جرى تهميش المجتمع المدني.
بهذا المعنى، يعيش السودانيون داخل إطار مؤسسي صُمم لعصر لم يعد قائماً، إذ لم تعد الصراعات الحديثة تُحسم بإرضاء الجنرالات، بل بإعادة بناء الثقة بين المكونات المجتمعية، ومع ذلك، فإن القوى الدولية والإقليمية لا تزال تتعامل مع الأزمة السودانية بالأدوات القديمة ذاتها، فتسعى إلى جمع الخصوم في قاعات مغلقة لتوقيع اتفاقات هشة، في حين تظل المدن المدمرة ومعسكرات النزوح شاهداً على غياب الحل الحقيقي.
لقد حولت هذه المقاربة السلام إلى سلعة تفاوضية، تُباع بالولاءات وتُشترى بالمناصب، حتى غابت فكرة الدولة الجامعة لمصلحة محاصصة بين أطراف تملك السلاح لا الشرعية.
يقتضي تجاوز هذا الإرث قلب المعادلة، بأن تنطلق من قاعدة مدنية واسعة تعيد تعريف مفهوم 'الكتلة الوطنية' على أسس العدالة والمساءلة، فكما تؤكد تجارب ما بعد النزاعات الحديثة في أفريقيا وغربها، فإن السلام الدائم لا يُصنع في غرف المفاوضات، بل في الفضاء العام، لاستعادة العقد الاجتماعي من أيدي القلة.
في ضوء التطورات المتسارعة في المشهد السوداني منذ اندلاع الحرب، يمكن استشراف ثلاثة سيناريوهات مستقبلية لمقاربة سودانية تنهي الحرب وتعيد للدولة توازنها المفقود، تتفاوت في عمقها واتساقها مع المتغيرات الداخلية والدولية.
السيناريو الأول، فشل التسوية واستمرار الحرب، يظل هذا السيناريو الأكثر خطراً والأقرب للتحقق على المدى القصير، فمع غياب الثقة بين الجيش وقوات 'الدعم السريع'، وتشتت القوى المدنية، واستمرار النزاعات القبلية المتفرعة، تبقى فرص التوصل إلى هدنة مستقرة ضعيفة، كما أن ضعف التنسيق بين المبادرات الإقليمية، وتعدد الوسطاء بلا أدوات ضغط فاعلة، يجعلان أي اتفاق هشاً وموقتاً، واستمرار القتال سيقود تدرجاً إلى تآكل مؤسسات الدولة وتجزؤ السلطة، وربما بروز مراكز نفوذ متصارعة تتقاسم الجغرافيا والثروة، وفي هذا السياق، يتحول السودان إلى ساحة مفتوحة لتنافس القوى الخارجية، في إعادة إنتاج مأسوي لنموذج ليبيا أو الصومال.
والسيناريو الثاني، المقاربة التدرجية المدعومة خارجياً، وهو المسار الأرجح في المدى المتوسط، إذ يقوم على توازن محسوب بين الضغوط الدولية والمصالح المحلية، اتفاق الـ12 من سبتمبر، الذي وضع خريطة طريق جماعية تشمل هدنة إنسانية لثلاثة أشهر تعقبها عملية سياسية لتشكيل حكومة انتقالية مدنية، يمثل إطاراً عملياً لهذا الاتجاه، نجاحه مرهون بقدرة 'الرباعية' على توحيد مواقفها، وبتوسيع المشاركة لتشمل الاتحاد الأفريقي و'إيغاد' لضمان شرعية إقليمية متوازنة، هذا المسار قد يحقق تقدماً تدرجياً إذا رُبطت المساعدات الاقتصادية بالإصلاحات السياسية، وأُعطيت الأطراف المحلية حوافز واقعية لوقف القتال، ومع ذلك، يظل هذا السيناريو هشاً أمام أي تصعيد عسكري مفاجئ أو تدخل خارجي غير منضبط.
أما السيناريو الثالث، المقاربة السودانية الخالصة، فهو المسار الأصعب تحقيقاً في المدى القريب، فعلى رغم أنه يقوم على طموح بفرض تسوية تُبنى على توافق داخلي بين المكونات العسكرية والمدنية والقبلية، لكن نجاح هذا السيناريو يفترض نضوج طبقة سياسية جديدة تتجاوز منطق الغلبة إلى منطق العقد الاجتماعي، وتؤسس لشرعية مدنية حقيقية، فإذا استطاعت القوى السودانية التوصل إلى حال توافق، فقد يولد من رحم هذه الحرب نظام سياسي جديد يعيد تعريف الدولة بوصفها ملكاً عاماً لا غنيمة فئوية.