هل يعود جهاز المناعة شابًا؟.. ثورة طبية تنفجر من المختبرات

متابعات- نبض السودان

لسنواتٍ طويلة، ظلّت فكرة استعادة شباب جهاز المناعة أقرب إلى الخيال العلمي، تذكرنا بأفلام المستقبل التي يظهر فيها الإنسان محصّنًا من الأمراض، بجهاز مناعي لا يشيخ ولا يضعف. لكن هذه الفكرة التي طالما وُصفت بالمبالغ فيها، بدأت اليوم تخرج من صفحات الروايات نحو أرض الواقع، محمّلة بنتائج دراسات علمية تُربك قواعد الطب التقليدي.

في أبريل 2025، نشر باحثون في جامعة شيفيلد البريطانية، عبر مجلة Cell Reports، دراسة وصفت بأنها نقطة تحوّل غير مسبوقة في فهم المناعة والشيخوخة، بقيادة البروفسورة شارلوت موس، أستاذة علم الجينات المناعية، التي أماطت اللثام عن اكتشاف خطير: جهاز المناعة لا يشيخ مع الجسد، بل يسبقه في التدهور بعشر سنوات كاملة.

هذا الاكتشاف لا يعيد فقط رسم تصورنا للشيخوخة، بل يفتح بابًا واسعًا أمام الذكاء الاصطناعي ليقود ثورة طبية شاملة تهدف إلى وقف شيخوخة المناعة قبل أن تتجسد في شكل أمراض.

بداية الصدمة: جهاز المناعة يشيخ أولاً

من بين جميع أجهزة الجسم، لم يكن يُتوقع أن يبدأ التدهور بجهاز المناعة. لكن نتائج دراسة شيفيلد قلبت هذه الفرضية رأسًا على عقب. إذ كشفت أن شيخوخة المناعة تبدأ قبل أي علامات جسدية أخرى، بعشر سنوات كاملة، وهو ما يعني أن الإنسان قد يبدو شابًا في مظهره، بينما يشيخ جهازه المناعي في صمت.

الخلل يبدأ في جينين أساسيين هما MYC وUSF1، المسؤولان عن تنشيط خلايا الماكروفاج، وهي بمثابة الخط الأمامي للدفاع المناعي، تتولى مهاجمة الفيروسات والخلايا السرطانية. ومع التقدم في العمر، تفقد هذه الجينات كفاءتها، فتصبح الخلايا المناعية أبطأ وأقل فاعلية، ما يسمح لتسلل الالتهابات الصامتة التي ترتبط بأمراض مثل السكري والخرف وتصلب الشرايين.

تقول البروفسورة موس: 'ما نرصده ليس مجرد إرهاق مناعي… بل انهيار مبرمج يبدأ من الشيفرة الجينية نفسها'.

رحلة الماكروفاج… من نخاع العظم إلى معركة المناعة

تنحدر خلايا الماكروفاج من الخلايا الوحيدة (Monocytes)، وهي خلايا دم بيضاء كبيرة الحجم، تنشأ في نخاع العظم، وتنتقل إلى مجرى الدم لبضع ساعات قبل أن تستقر في أنسجة الجسم المختلفة مثل الكبد والرئتين والجلد.

بمجرد وصولها، تتحوّل إلى خلايا ماكروفاج ناضجة، وتؤدي ثلاث مهام رئيسية:

وتُعد هذه الخلايا خط الدفاع الأول في المناعة الفطرية، وهي أول من يرد على التهديدات. لكن عندما تُصاب هذه الخلايا بالشيخوخة، فإن كامل المنظومة المناعية تبدأ بالانهيار تدريجيًا، حتى لو لم تظهر أي أعراض واضحة.

المناعة والدماغ والذكاء الاصطناعي: تحالف جديد يُغيّر الطب

في مشهد يثير الإعجاب والدهشة، تكشف دراسات عالمية جديدة أن شيخوخة المناعة لا تقتصر على الجسم فقط، بل تمتد إلى الدماغ. دراسة صينية نُشرت في Nature Aging، في مارس 2025، أكدت أن التدهور المناعي يؤدي إلى تراجع الحماية العصبية، ما يُمهّد الطريق لظهور أمراض كالزهايمر والباركنسون بشكل أسرع.

من جهة أخرى، استخدمت جامعة ستانفورد أنظمة ذكاء اصطناعي متقدمة لتحليل البصمة المناعية لأكثر من 5000 شخص من مختلف الأعمار. النتيجة المذهلة كانت أن الذكاء الاصطناعي نجح في تحديد مفهوم جديد يُعرف بـ'العمر المناعي'، أي العمر الحقيقي للجهاز المناعي، الذي قد يختلف عن عمر الإنسان الزمني.

بمعنى أنك قد تكون في الأربعين، لكن جهازك المناعي قد بلغ الستين دون أن تدري!

الذكاء الاصطناعي يعيد تشكيل مستقبل المناعة

في تجربة نشرتها مجلة Nature Biomedical Engineering، استخدم العلماء نماذج تعلم عميق لتحليل مستويات السيتوكينات، وهي الجزيئات الالتهابية التي تفرزها الخلايا المناعية عند وجود تهديد. الذكاء الاصطناعي ربط هذه البيانات بمؤشرات الشيخوخة الخفية، وتمكن من كشف حالات تدهور مناعي غير مرئية في التحاليل التقليدية.

كانت النتائج مفاجئة: أشخاص يتم تصنيفهم طبيًا بأنهم 'أصحاء تمامًا'، كشف الذكاء الاصطناعي أنهم في حالة انحدار مناعي خطير.

هذا الاكتشاف يغيّر جذريًا من دور الذكاء الاصطناعي، الذي لم يعد مجرد أداة تشخيصية، بل بات وسيلة استباقية لرؤية الخطر قبل ظهوره، وتقديم تدخلات طبية مبكرة.

لماذا يجب أن نقلق في العالم العربي؟

الأرقام مقلقة. بحسب منظمة الصحة العالمية، من المتوقع أن يتضاعف عدد كبار السن في العالم العربي بحلول عام 2050 ليصل إلى أكثر من 125 مليون شخص. في ظل انتشار أمراض العصر مثل السكري، والسمنة، وارتفاع ضغط الدم، تصبح الشيخوخة في منطقتنا أكثر هشاشة، وأقل استعدادًا للمقاومة.

هنا، تصبح ثورة الذكاء الاصطناعي في الطب أكثر من مجرد ترف علمي، بل ضرورة صحية عاجلة، خاصة أن زمن 'الطب الوقائي التقليدي' لم يعد كافيًا.

الانتقال إلى مفهوم 'العمر المناعي'، والتحليل المسبق للبصمة المناعية، يمكن أن يُعيد رسم مستقبل الطب في عالمنا العربي، ويمنح كبار السن فرصة لحياة أطول… وأكثر قوة.