اخبار السودان
موقع كل يوم -اندبندنت عربية
نشر بتاريخ: ١٥ نيسان ٢٠٢٥
خشية من تفكك الدولة من الداخل وتحول البلاد إلى كيان فاشل ومقسم
لم يكن الدمار الذي سببته الحرب السودانية المندلعة بين الجيش وقوات 'الدعم السريع' منذ منتصف أبريل (نيسان) 2023، قد طاول البنية التحتية والأعيان المدنية وحسب، إذ تسبب في خلخلة وانهيار النسيج الاجتماعي بصورة لا توصف، إذ أصبحت وسائل التواصل الاجتماعي، على وجه الخصوص، منصات للكراهية وتصعيد العنف والتشفي ضد مجموعات عرقية بعينها وهي ما تسمى 'الحواضن الاجتماعية' الداعمة لأطراف الحرب، بخاصة 'الدعم السريع'، مما يدفع المجتمع نحو مزيد من التوتر والانقسام العرقي، فضلاً عن إمكان تحول هذا الصراع إلى حرب عرقية شاملة طويلة الأمد.
فكيف ينظر المراقبون والمتخصصون إلى ما يثار من جدل حول مسألة 'الحواضن الاجتماعية' وأثرها في مستوى السلام والتعايش الاجتماعي واستقرار البلاد مستقبلاً؟
حوار مجتمعي
يشير والي ولاية شمال دارفور السابق عبدالواحد يوسف إلى أن 'هذه الحرب ليست قاصرة على ما هو شائع في أذهان كثير من الناس منذ الوهلة الأولى لاندلاعها بأن هناك حواضن اجتماعية بعينها شاركت فيها، فهناك أيضاً مكونات اجتماعية أخرى شاركت لكن بنسب أقل، وهو ما أحدث بعض الاختلالات الاجتماعية في غير حواضن ’الدعم السريع‘ المعروفة وتحديداً في ولايات الخرطوم والجزيرة وسنار وغيرها'. وأضاف، 'ما يقال إن هذه المجموعات القبلية والسكانية شاركت بالإجماع في الحرب غير صحيح، وحسب معلوماتنا ومتابعاتنا حول ما يجري في هذا الشأن نجد أن كثيراً جداً من هذه الحواضن غير راغبة في الحرب، لكن المشكلة أن معظمهم مغلوب على أمره، بخاصة عندما يكون هناك شخص حامل السلاح ويستخدم القوة وسلاح التخوين ضد كل من يقف ضده، فمن الطبيعي أن تقف الغالبية معه بالإكراه، ويلزم آخرون ناصية الصمت، فهذه حقيقة مهمة لا بد من الإقرار بها'.
وزاد 'صحيح هناك إدارات أهلية كبيرة خرج زعماؤها وأعلنوا عن انحيازهم ومشاركتهم في الحرب، لكن نجد في أحيان كثيرة أن هذه الإدارات لا تعبر عن الرأي العام داخل القبيلة أو المكون الاجتماعي المحدد، فكل من يقف موقفاً شاذاً يكون قد استُميل من قبل قيادة ’الدعم السريع‘ ومن يقف وراءها'.
وواصل يوسف، 'في اعتقادي أنه في ظل هذا الواقع لا بد من حوار مجتمعي شامل يسبق العملية السياسية على أن يُبت خلاله في بعض الأشياء المهمة، ومنها: هل لدينا الرغبة للعيش في دولة واحدة أم لا؟ وهذه مسألة مهمة جداً لأن هناك كلاماً يتداول في منصات التواصل الاجتماعي ووسائل الإعلام المختلفة له ما يبرره، فبعض المجموعات السكانية على الشريط النيلي تعتقد أن هناك اتهامات ضدها تطلقها بعض المجموعات الأخرى ليست في محلها، بل إنها لا تقل من ناحية المعاناة ونقص الخدمات عن بقية المناطق التي تسمى المهمشة، ومن ثم إذا كانت هذه الحال فمن الأفضل أن تذهب كل مجموعة لحالها، وعلى رغم أنه حديث مبرر فإنه غير عملي لأنه سيؤدي إلى تقسيم البلاد وتجزئتها'.
ونوه بأنه 'ليس شرطاً أن تقود الإدارات الأهلية الحوار المجتمعي لأن غالبية المناطق أصبحت مجتمعات شبه مدنية تدار بنظام إداري حديث، حتى إذا كانت هناك تسميات ما زالت موجودة مثل العمدة والشيخ والناظر فهي أصبحت مسألة تاريخية ولم يعد لها وجود عملي، لكن بصورة عامة لا بد من أن يكون الحوار شفافاً وصريحاً وواضحاً ويُتفق خلاله على القضايا الأساسية'.
نقاط التقاء
وتابع والي ولاية شمال دارفور السابق، 'لا أعتقد أن وجود حرب يعني أن الدولة تتفكك، ففرصة أن يتعايش الناس مع بعض متوافرة ونقاط الالتقاء كبيرة، نظراً إلى وجود عوامل مشتركة عدة تساعد وتؤهل للعيش مع بعض مثل الثقافات والدين والتداخل الاجتماعي والتزاوج وغيرها، وهناك تجارب عدة يمكن الاهتداء بها أقربها ما حدث في جنوب أفريقيا، لكني لا أعول على تجربة رواندا التي بتقديري فيها جوانب مصطنعة'.
واستطرد 'توجد في دارفور تجربة شبيهة يطلق عليها اسم ’الملاومة‘، حيث تكون هناك مشكلة بين مجموعتين سكانيتين ليس بالضرورة أن تكونا من قبيلة واحدة، فأحياناً تكون المشكلة بين قرية وأخرى أو مجموعة قرى وأخرى، يجمعهم المكان، فيجلس ممثلون من الطرفين يعرفون بـ’أهل الحل والعقد‘ تحت شجرة كبيرة، ويدور بينهم حوار يتناول سبب المشكلة والمأخذ في شكل ملاومة وكل طرف يقر بما بدر من جماعته من تجاوزات، وينتهي الحوار بوضع اتفاق في شكل ميثاق يتضمن بنوداً للتعايش المستقبلي، وهو ما يؤسس لعقد اجتماعي يُتعايش بحسبه مئات الأعوام، لكن مع ذلك نجد أن الحواضن نفسها تعاني في داخلها مشكلات تحتاج أيضاً إلى عملية مصالحة داخلية وعقد اجتماعي'.
وختم يوسف، 'في تقديري لا تعني الحروب نهاية المطاف، فهناك مناطق كثيرة حدثت فيها مشكلات وحروب وراح ضحيتها أعداد كبيرة، لكن تُجووزت سواء في أفريقيا وأوروبا وأميركا وآسيا وغيرها، وآخرها الحرب العالمية الثانية التي قتل فيها أكثر من 20 مليون شخص، وبعدها لم يكن أمام الأوروبيين من خيار غير المصالحة والتأسيس لمواثيق ما زالت قائمة وعلى ضوئها استقرت أوروبا'.
اندماج قسري
من جانبه قال الباحث في مجال الإعلام، عباس مصطفى صادق، 'لا بد من أن نتذكر عند الحديث عن تفتيت الحواضن الاجتماعية في ظل الحرب الجارية حالياً في البلاد، دور هذه الحواضن في مجتمع ما زال بعيداً جداً عن دور الدولة في تشكيل البناء الوطني وحماية النسيج الاجتماعي، فعلى رغم النظر إلى الحاضنة أحياناً كمظهر تقليدي كونته ظروف تاريخية وجغرافية، فإنها تظل تؤدي وظائف بالغة الأهمية، بل عُدت ركيزة أساسية في بناء مجتمعات متماسكة ومترابطة، بخاصة في البيئات التي تعاني ضعف مؤسسات الدولة'، وتابع 'وعليه فإن استهدافها في الحرب الحالية ربما يتجاوز تفكيكها، إلى التأثير في هياكلها وإخراجها من أراضيها، ودفعها إلى الاندماج القسري في مجتمعات لا تنتمي إليها في الأصل بغرض إعادة صياغة أفكارها، ليس ثقافياً واجتماعياً وحسب، وإنما أيديولوجياً وسياسياً، وهذا هو الجانب الخفي الخاص بأهداف هذه الحرب'.
ولفت صادق إلى أن 'هذا الوضع سيؤدي بلا شك إلى حال عدم انتماء في أعلى مستوياتها، تمتزج معها مشاعر رفض قد تصل إلى حد الكراهية تجاه الطرف الذي دمرها بتهمة التماهي مع عدوه، لذا فنحن أمام وضع لا يمكن أن يسهم في بناء دولة ما بعد الحرب وتطبيع الحياة في سلام'، وزاد، 'الحرب حينما تستهدف الحاضنة الاجتماعية لا يمكن أن ننتظر منها غير التقسيم والدخول في دورات من العنف والفقر والتهديدات الوجودية التي تعرض بقاءها للخطر، لذلك أتصور أن تسعى هذه الحواضن في الغالب بعد انتهاء الحرب إلى استعادة أراضيها وحقوقها، لكن من الصعب انهيار قياداتها وإعادة البناء ليتراجع الحديث عن تعمير ما خربته الحرب'.
ومضى الباحث في مجال الإعلام قائلاً 'في نهاية الأمر لن تكتفي هذه الحرب بتغيير موازين القوى والنصر والهزيمة، بل تعمل على تفكيك الدولة من الداخل، وهي أحد أسرع الطرق لانهيار السودان وتحوله إلى كيان فاشل ومقسم'.