اخبار السودان
موقع كل يوم -نبض السودان
نشر بتاريخ: ٢ أب ٢٠٢٥
متابعات- نبض السودان
رغم اشتداد الحرب في العاصمة السودانية الخرطوم، وحصار القذائف التي لم تتوقف عن التهاطل، لم يُغادر الفنان والموسيقي السوداني الكبير أبو عركي البخيت منزله الكائن بحي العرضة في أم درمان.
المنطقة تحولت إلى ساحة معارك مفتوحة، والقذائف كانت تنهمر من كل الاتجاهات، لكن أبو عركي تمسك بمكانه، ورفض ترك منزله، مفضلاً الصمود بجانب ابنه فارس في قلب الخطر.
في خطوة مليئة بالحكمة والمشاعر الإنسانية، قرر أن يسكن كل منهما في غرفة منفصلة، حتى إذا أصيب أحدهما، يتمكن الآخر من إنقاذه. هذا القرار البسيط كان تجسيداً حقيقياً لشجاعة إنسان في وجه الموت، وصاغه الفنان لاحقًا في قصائد مؤثرة كتبها تحت وقع القنابل، حيث تساءل بلهجة سودانية: 'من وين بتجينا الدانات اللي خلت الناس كلها تتحزم للموت؟!'
الصوت الذي لم يخن الوطن
لم يكن أبو عركي البخيت مجرد مغنٍ عادي في المشهد السوداني، بل ظل صوتاً نادراً مليئاً بالتمرد والكرامة، عبّر عن ملايين السودانيين، وتشبّث بمبدأه، رافضاً الرحيل رغم دعوات عائلته وأصدقائه الذين أرادوا له النجاة، ليقول كلمته الشهيرة: 'مغادرة الوطن وقت ضعفه خيانة للمبدأ.'
فنان الشعب.. ضد الحرب ومع الحياة
اشتهر أبو عركي بموقفه الثابت من القضايا الوطنية، وكان دومًا ضد الحرب. تغنّى بالحرية والسلام، وصوته ظلّ يُردّد كنداء مستمر للمحبة والديمقراطية. لم تكن أغانيه مجرد إيقاع جميل، بل كانت رسائل عميقة حرّكت وجدان أجيال متعاقبة، واستطاعت أن تتجاوز كل التصنيفات السياسية والقبلية والاجتماعية، ليصبح محبوبًا من الجميع دون استثناء.
زيارات بين البنادق والقوافي
أثناء المعارك الضارية، زارته صحيفة 'الشرق الأوسط' في منزله، ووجدته هناك، كما هو، لم يُغادر. تحدث عن أصعب اللحظات التي مرّ بها خلال الحرب، حين كان عناصر قوات الدعم السريع يزورونه ويتبادلون الحديث معه، في مشهد غريب عن الحرب لكنه يدل على مكانته التي فرضت احترام الجميع.
وعندما استعاد الجيش السيطرة على الخرطوم، لم يتغير شيء في المعادلة؛ فقد استمرت زيارات الجيش إليه، وظل منزله نقطة توافق نادرة بين طرفي الصراع، في وقت انهار فيه كل شيء آخر.
فنان الكلمة.. شاعر القصيدة وقائد الوجدان
وُلد أبو عركي البخيت في مدينة ود مدني عام 1947، لكنه لمع لاحقاً في الخرطوم، وقدم مجموعة من الأغنيات الخالدة في وجدان السودانيين مثل: بخاف، وواحشني، وعن حبيبتي بقول لكم، وسهرنا الليل، ويوم رحيلك.
وقد كتب قصيدة بعنوان 'نفسنا طويل وما بنتعب'، وثق فيها لحظة اندلاع الحرب في أبريل، موجهاً نقداً صريحاً للنخب السياسية التي حاولت التنصل من مسؤولياتها، لكنه في الوقت ذاته تمسك بأمل التغيير والمحاسبة.
دارفور في القلب.. والرفض للمتاجرة بالمأساة
دارفور لم تكن بعيدة عن قلب الفنان؛ فقد وصف ما جرى هناك بـ'الكارثة التي صنعتها قلوب لا ترحم'، وهاجم أولئك الذين غادروا الإقليم وتاجروا بمآسيه، قائلاً إنهم 'تركوا أهلهم يواجهون المصير المجهول'.
وفي إحدى قصائده التي ألقاها على 'الشرق الأوسط'، كتب لامرأة من دارفور:
'دمعة أسى نابعة من أغوار مآسيها، نحتت على خدها، وسطّرت في صفحة الزمن اللئيم معاناتها، وهي تكابد مرارة القهر والجوع وما بتفارق ديارها'.
يحظى باحترام الجميع.. الجيش والدعم السريع على السواء
زميله الفنان عبد القادر سالم وصفه بأنه فنان عظيم، يقف دائمًا بجانب الضعفاء، وصاحب ذوق فني رفيع يجعله يدقق في كل كلمة ولحن، لذلك نال احترام الجميع، بمن فيهم الجنود من الجيش و'الدعم السريع'، الذين كانوا يترددون على منزله، ويأخذون صورًا تذكارية معه خلال الحرب.
'عزة في هواك' منقوشة على البوابة
أحد أكثر المشاهد رمزية في حياة أبو عركي أنه نحت بوابة منزله بالنوتة الموسيقية لأغنية 'عزة في هواك'، وهي أيقونة الغناء الوطني السوداني التي كتبها الشاعر خليل فرح، مجسدًا بذلك حبه الأبدي للوطن.
بقي مع الحدادين والعمال لمدة عشرة أيام كاملة حتى تكتمل النوتة المنحوتة، لتكون المدخل الرسمي لعوالم أبو عركي الفكرية والفنية، رمزًا لرفض الانكسار وتمجيداً للوطن.
طيور الحمام.. بشائر في وقت الموت
خلال الحرب، عندما كانت طيور الحمام تقترب منه وتلتقط الحب من يديه، كان يرى في ذلك إشارة رمزية إلى اقتراب السلام، فكان ينثر الحب ويردد قصائده، يغني للحياة في وجه الموت، مؤمناً أن هذا الوطن يستحق من يحتضنه حتى في أصعب لحظاته.
لقد أصبح أبو عركي في أعين كثيرين فنانًا لا يخاف، وإنسانًا لا يساوم، وصوتًا لا ينكسر.