اخبار السودان
موقع كل يوم -نبض السودان
نشر بتاريخ: ٢١ أب ٢٠٢٥
متابعات- نبض السودان
لطالما ارتبط علاج السرطان بالبحث عن وسائل قادرة على قتل الأورام مع الحفاظ على سلامة الجسم ووظائفه الحيوية، حيث ظل العلاج الكيميائي لسنوات طويلة خط الدفاع الأول أمام المرض، رغم آثاره الجانبية القاسية وفشله أحيانًا في مواجهة الأورام المقاومة.
وبينما كان العلماء يسعون لإيجاد بدائل أكثر أمانًا ودقة، برز اكتشاف دوائي جديد يعتمد على مادة البلاتين، التي تُستخدم تقليديًا في صناعة المجوهرات والدوائر الكهربائية، ليعيد الأمل في معركة البشرية مع السرطان.
البلاتين بين الماضي والحاضر
استخدام البلاتين في الطب ليس جديدًا، فقد طُورت عقاقير مثل 'سيسبلاتين' و'أوكساليبلاتين' لعلاج أنواع متعددة من الأورام، عبر الارتباط بالحمض النووي وتثبيط انقسام الخلايا وتحفيز موتها المبرمج. غير أن هذه العقاقير التقليدية تعاني من بطء المفعول وسُميّة عالية تجاه الخلايا السليمة، بالإضافة إلى ظهور مقاومة متزايدة من بعض الأورام. هذه القيود دفعت فريقًا بحثيًا بقيادة الدكتورة 'جون هوا ماي'، الأستاذة المساعدة في أبحاث الطب النانوي بمستشفى هيوستن ميثوديست، إلى تطوير تركيبة نانوية جديدة قائمة على البلاتين، قادرة على تغيير قواعد اللعبة.
اكتشاف 'البلاتين الحامل'
أثمرت الأبحاث عن مادة نانوية مبتكرة تُعرف باسم 'البلاتين الحامل'، تعتمد على توليد أنواع الأكسجين التفاعلية، ولا سيما جذور الهيدروكسيل، وهي من أكثر الجزيئات ضررًا للخلايا. ووفقًا للدراسة المنشورة في مجلة 'بايوماتيريلز'، يتميز هذا المركب بسرعة فائقة في قتل الخلايا السرطانية، حيث يبدأ مفعوله خلال دقائق، بخلاف الأدوية الكيميائية التي تحتاج لساعات أو أيام.
آلية العمل المدهشة
أوضح الدكتور 'يونغ بين لو'، المؤلف الأول للدراسة، أن 'البلاتين الحامل' عبارة عن مركب هندسي نانوي يتكون من جسيمات بلاتينية مُدمجة في حامل بوليمري قابل للتحلل الحيوي. هذا الحامل لا يوفر فقط بنية داعمة، بل يعزز البيئة الكيميائية حول البلاتين، ما يزيد من قدرته على تحفيز تحلل بيروكسيد الهيدروجين الموجود طبيعيًا داخل الخلايا السرطانية. وتنتج هذه العملية دفعات قوية من جذور الهيدروكسيل التي تدمر الخلايا الخبيثة عبر إرباك توازنها الأيضي.
نتائج مبهرة على أنواع مختلفة من السرطان
عند اختبار التركيبة على سلالات من سرطان القولون، والثدي، والمبيض، والرئة، والكلى، بما في ذلك الأنواع المقاومة للعلاج الكيميائي، حقق 'البلاتين الحامل' نتائج مذهلة. فقد ارتفعت مستويات الأكسجين التفاعلي داخل الخلايا بمقدار 30 ضعفًا خلال 30 دقيقة فقط، وهو إنجاز لم تحققه أقوى العلاجات المتاحة حاليًا. والأهم أن الخلايا السليمة ظلت إلى حد كبير بمنأى عن الأذى، بفضل احتوائها على مستويات مرتفعة من الجلوتاثيون وانخفاض نسبة الماء، ما منحها حماية طبيعية.
اختراق حاجز المقاومة
واحدة من أعقد المشكلات في علم الأورام هي قدرة بعض الخلايا السرطانية على التكيف مع الأدوية والنجاة منها. لكن الاختبارات أثبتت أن 'البلاتين الحامل' لم يسمح للأورام بتطوير أي مقاومة، حتى بعد تعريضها المتكرر للعقار على مدى أسابيع. في المقابل، أصبحت الخلايا نفسها مقاومة لعقاقير مثل 'أوكساليبلاتين' و'سيسبلاتين'.
تجارب على الحيوانات تعزز التفاؤل
أظهرت الدراسات على نماذج الفئران المصابة بأورام عدوانية أن 'البلاتين الحامل' تمكن من إيقاف نمو الورم أو القضاء عليه بالكامل، حتى في الأورام المقاومة لعقاقير البلاتين الأخرى. كما تبين أن التركيبة آمنة نسبيًا، إذ لم تُظهر سمية كبيرة حتى عند الجرعات العالية، ويعود ذلك جزئيًا إلى الحامل البوليمري الذي يحد من نشاط الدواء ويجعله يتركز في البيئة الحمضية الخاصة بالأورام.
آلية موت جديدة ومختلفة
خلافًا للعلاجات الكيميائية التقليدية التي تحفز الموت المبرمج للخلايا عبر تفتت الحمض النووي، يعتمد 'البلاتين الحامل' على إحداث موت خلوي نخري ناتج عن إجهاد تأكسدي ساحق، بما في ذلك نفاذية غشاء الليزوزوم وإجهاد الشبكة الإندوبلازمية. وتظهر الآلية اختلافًا عن 'موت الخلايا الحديدي' المعروف، حيث إنها لا تعتمد على الحديد وتعمل بسرعة غير مسبوقة.
تساؤلات مفتوحة وآفاق مستقبلية
ورغم هذه النتائج الباهرة، تظل هناك تساؤلات حول الخصائص الدقيقة للجسيمات النانوية ودورها في تعزيز هذا التفاعل الفعال، وإمكانية تصميم نسخ معدلة لتناسب أنواعًا أخرى من السرطانات، أو دمجها مع العلاجات المناعية. إلا أن الأمر المؤكد أن 'البلاتين الحامل' يمثل نقلة نوعية، حيث لا يكتفي بتسميم الخلايا الخبيثة، بل يستغل نقاط ضعفها الأيضية ليفتح نافذة جديدة في علاج السرطان.
بصيص أمل للمرضى والأطباء
اختتمت الدكتورة 'جون هوا ماي' حديثها بالتأكيد على أن هذا الابتكار قد يُمثل نقطة تحول في علاج الأورام، إذ يمنح أملًا جديدًا للمرضى الذين استنفدوا خيارات العلاج المتاحة، وللأطباء الذين يقفون أمام جدار المقاومة الدوائية دون بدائل فعالة.