اخبار السودان
موقع كل يوم -أثير نيوز
نشر بتاريخ: ٢٧ أب ٢٠٢٥
في 24 أغسطس 2025، أقدمت إثيوبيا على فتح ثلاث بوابات من المفيض العلوي في سد النهضة، بعد أن وصل منسوب التخزين إلى قرابة 69 مليار متر مكعب، مقتربًا من المنسوب الأقصى البالغ 74 مليار متر مكعب. وعلى الرغم من أن هذه الخطوة لم تكن مفاجئة ، فإن توقيتها شكّل مصدر قلق كبير لبلادنا ، بالنظر إلى غياب التنسيق المشترك ورفض إثيوبيا الالتزام بأي اتفاق قانوني ملزم ينظّم عملية الملء والتفريغ، وهي نقطة طالما نادى بها السودان إلى جانب مصر للحفاظ على كفاءة السدود والبنية التحتية المائية في البلدين.
الخطوة الإثيوبية هذه، على غرار ما حدث في المواسم السابقة، جاءت دون إشعار مسبق أو ترتيبات فنية واضحة مع دولتي المصب، ما يعكس استمرار نمط الإدارة الأحادية للموارد المائية المشتركة. وعلى الرغم من أن فتح المفيض كان متوقعًا في ضوء ارتفاع مناسيب المياه في بحيرة السد، فإن التأخر في التنفيذ فاقم من المخاوف بشأن احتمالية تدفقات مفاجئة وغير محسوبة نحو السودان، وخصوصًا نحو سد الروصيرص الذي يقع على بعد أميال قليلة من السد الإثيوبي ويعتمد في تشغيله على تدفقات مستقرة ومتوقعة.
وسط هذا السياق المضطرب، برزت تطمينات الخبير السوداني الدكتور عثمان التوم حمد، الذي أشار في تقييم فني إلى أن السودان، رغم تلك الظروف، قد لا يواجه خطرًا هذا العام. وأوضح أن سيناريوهات الإيراد خلال أشهر سبتمبر وأكتوبر ونوفمبر، حتى في حال تساويها مع أعلى إيراد تاريخي مسجل خلال المائة عام الماضية، تبقى ضمن نطاق السيطرة، شريطة تشغيل منظومة السدود السودانية بكفاءة. كما أشار إلى أن التصريفات المتوقعة من الروصيرص وسد مروي قد تصل إلى 500 و550 مليون متر مكعب في اليوم على التوالي، وهي أرقام مرتفعة لكنها قابلة للإدارة ضمن مجرى النيل الرئيسي دون أن تسبب فيضانًا خارجًا عن السيطرة.
وقد عزز هذا الرأي ما تضمنته الدراسة التشغيلية الممتدة من يوليو 2025 إلى يونيو 2026، والتي قدمت نظرة شاملة على التدفقات الشهرية والتصريفات المخططة عبر سلسلة السدود على النيل الأزرق والنيل الرئيسي. أظهرت الوثيقة أن هناك متابعة دقيقة وتوزيعًا محسوبًا للتدفقات خلال موسم الفيضان، بدءًا من الارتفاع التدريجي في يوليو، مرورًا بذروة الفيضان في أغسطس وسبتمبر، وانتهاءً بانخفاضها خلال أشهر الجفاف. هذا التدرج، إلى جانب قدرات التصريف المعلنة لسد النهضة والمراقبة عبر الأقمار الصناعية، يوحي بأن هناك درجة من الضبط الفني حتى في غياب التنسيق السياسي الكامل.
غير أن هذه المعطيات، مهما بدت مطمئنة على المستوى الفني، لا يمكنها إخفاء المعضلة السياسية العميقة المتمثلة في غياب إطار قانوني ملزم ينظم إدارة هذا المشروع العملاق. فالإدارة الإثيوبية لسد النهضة، منذ انطلاق المشروع، ظلت مرهونة بحسابات داخلية ، لا تتقيد بإشراك الدول المتأثرة في آلية اتخاذ القرار، ما يضع السودان ومصر أمام واقع مائي متغير لا يمكن التنبؤ به ولا التحكم فيه بالشكل المطلوب.
وبينما تراهن إثيوبيا على سياسة فرض الأمر الواقع والتشغيل الأحادي، يبقى السودان في موقع المتأثر المباشر، يواجه كل عام خطر تدفقات غير منسقة، ويعتمد في قراراته على التقديرات الفنية والتكتيكات الميدانية، بدلًا من أن يكون شريكًا حقيقيًا في إدارة مورد مائي استراتيجي تتقاطع فيه مصالح الدول الثلاث. وفي هذا السياق، فإن التطمينات الفنية، رغم أهميتها في طمأنة الرأي العام وتوجيه الخطط التشغيلية، لا يمكن أن تحل محل الضمانات القانونية التي تضمن استدامة الأمن المائي السوداني في المدى الطويل.
إن إدارة المياه العابرة للحدود، خصوصًا في الحوض الشرقي لنهر النيل، لا يمكن أن تستمر على هذا النحو الأحادي. فالمياه ليست مورداً سيادياً داخلياً بقدر ما هي شريان مشترك يربط مصائر شعوب وثروات واقتصادات متعددة. وإن كان السودان قد نجح حتى الآن في امتصاص بعض المفاجآت التشغيلية القادمة من أعلى المجرى، فإن هذا لا يجب أن يُعوّل عليه كاستراتيجية دائمة.
لذلك فإن التحدي الحقيقي لا يكمن في استيعاب التصريفات الحالية، بل في إعادة صياغة معادلة الشراكة على أسس قانونية وفنية عادلة، تحفظ الحقوق وتمنع الأضرار وتؤسس لمستقبل مستقر لإدارة نهر النيل. تشغيل السد لا يجب أن يكون قرارًا منفردًا في أديس أبابا، بل ينبغي أن يكون نتيجة شراكة كاملة تشمل جميع الأطراف ذات المصلحة، لأن أمن النهر هو أمن جماعي، لا يُدار بالإرادة المنفردة.
إن المشهد الراهن بحسب #وجه_الحقيقة يعيد التأكيد على أن غياب التنسيق لم يعد مجرد خلل فني، بل أصبح سمة هيكلية في إدارة سد النهضة، ما يجعل من الضروري إعادة فتح مسار التفاوض السياسي بروح مختلفة، تقوم على إدراك أن الأمن المائي ليس ملفًا تقنيًا فحسب، بل قضية سيادية واستراتيجية تتطلب توافقًا حقيقيًا، لا مجرد إدارة مؤقتة للأزمات المتكررة دون شراكة.
قبل المغادرة يجب الاشادة بالخطوة الموفقة التي اتخذها رئيس الوزراء د. كامل إدريس بإصدار القرار رقم (121) لسنة 2025م بتعيين الدكتور صالح حمد حامد عمر رئيساً للجهاز الفني للموارد المائية، لما لهذا التعيين من أهمية كبيرة في تعزيز إدارة واستثمار الموارد المائية في السودان. دمتم بخير وعافية.
الأربعاء 27 أغسطس 2025م Shglawi55@gmail.com