اخبار السودان
موقع كل يوم -اندبندنت عربية
نشر بتاريخ: ٢٩ أيار ٢٠٢٥
منذ الحرب شهد القطاع انهياراً تمثل في فقدان البلاد أكثر من 70 في المئة من قدرتها الإنتاجية
تبرز أزمة الكهرباء في السودان كأحد وجوه اختلال البنية السياسية والاقتصادية، فقد ارتبطت على مدى عقود بتعقيدات المشهد السياسي، وبسلسلة طويلة من الأزمات المزمنة التي عصفت بالدولة منذ فجر الاستقلال، فعلى رغم أن الكهرباء تعد من ركائز التنمية وأدوات السيادة، فشلت الحكومات المتعاقبة في بناء قطاع طاقة حديث، يستطيع أن يلبي حاجات المجتمع ويدعم عجلة الاقتصاد الوطني.
وليس خافياً أن معظم العهود السياسية التي توالت على الحكم، كانت مشغولة بإدارة الصراع أو ترسيخ السلطة، في بلد يزخر بموارد طبيعية هائلة تؤهله لأن يكون من بين الدول الرائدة في إنتاج الكهرباء.
شهد قطاع الكهرباء في السودان تطورات متباينة تعكس تحولات الدولة ذاتها، منذ البدايات الأولى في أواخر العهد التركي - المصري، ومروراً بفترة الاستعمار الإنجليزي - المصري التي استخدمت الكهرباء كأداة لخدمة المرافق الإدارية ومشروعات السكك الحديد. ودشنت أول محطة كهرباء في الخرطوم عام 1908، ثم تتابعت الخطوات بوتيرة بطيئة، إذ ظلت الأرياف خارج نطاق الخدمة عقوداً.
بعد الاستقلال عام 1956 لم تمنح الكهرباء المكانة التي تليق بدورها في بناء الدولة، على رغم بعض المحاولات خلال الستينيات والسبعينيات لتوسيع الشبكة وإنشاء خزان الروصيرص ومشروعات كهرومائية أخرى. أنشئت الهيئة القومية للكهرباء كجسم مركزي في تلك الفترة، لكنها واجهت تحديات تمويلية وإدارية حالت دون تحقيق طفرة نوعية.
ومع نهاية القرن الـ20 تفاقمت الحاجة إلى الكهرباء بفعل التحضر والنمو السكاني، فأنشئ سد مروي، إلا أن العجز في البنية التحتية وشبكات التوزيع خيب الآمال. وخضعت إدارة القطاع لسلسلة من التعديلات المؤسسية، حتى استقرت على نموذج الشركات المتخصصة تحت مظلة شركة الكهرباء القابضة، وبذلك ظل قطاع الكهرباء مرآة لعثرات الدولة في التخطيط والعدالة أكثر من كونه مرفقاً تنموياً شاملاً.
وتضاعفت المأساة مع اندلاع الحرب الحالية، التي عمقت من حجم الانهيار في منظومة الدولة، وقوضت ما تبقى من مؤسسات خدمية، فالحرب لم تدمر فقط البنية التحتية للكهرباء، بل جعلت الوصول إلى التيار الكهربائي ترفاً لا يتاح إلا في نطاق ضيق، فيما يعيش ملايين السودانيين في عتمة قسرية، بلا إنارة ولا وسائل تبريد ولا قدرة على حفظ الأدوية أو تشغيل أجهزة طبية أو حتى شحن هواتفهم للتواصل مع العالم.
تدخل عاجل
شهد قطاع الكهرباء انهياراً تمثل في فقدان البلاد أكثر من 70 في المئة من قدرتها الإنتاجية للطاقة الكهربائية، وهي القدرة التي كانت أصلاً لا تلبي سوى نحو 60 في المئة من الحاجات الفعلية المقدرة بنحو 3500 ميغاواط، وقد أدى هذا الانحدار الحاد في التوليد الكهربائي إلى تفاقم الأزمة المعيشية وتعميق المعاناة، خصوصاً في ظل الانهيار المتزامن للخدمات الأساسية الأخرى بفعل الحرب، مما شكل ضغطاً هائلاً على البنية التحتية المنهكة أصلاً من الإهمال والصراعات المتراكمة.
تعاني منظومة الكهرباء السودانية منذ أعوام اختلالات هيكلية، أبرزها الاعتماد المفرط على التوليد الحراري، الذي تراجع خلال فترة الحرب إلى ما دون 1500 ميغاواط، بفعل تعطل المحطات وخروج كثير منها عن الخدمة نتيجة استهدافها المباشر أو بسبب انعدام الوقود وقطع الغيار. وأسهم امتداد العمليات القتالية إلى مناطق واسعة من الخرطوم وإقليم دارفور، ومن ثم إلى ولاية الجزيرة، في انقطاع التيار الكهربائي بصورة كاملة أو شبه كاملة عن تلك المناطق، مما زاد من تعقيد الوضع الإنساني والتنموي.
وفي إطار محاولة لإعادة هيكلة القطاع في ظل الفوضى الإدارية، أصدر المدير العام لشركة كهرباء السودان، في فبراير (شباط) 2024، قراراً بإعفاء مديري شركات التوزيع والتوليد الحراري والمائي، في خطوة وصفت بأنها أكبر عملية تغيير تشهدها المنظومة منذ اندلاع الحرب. وورد أن هذه الإعفاءات جاءت على خلفية خلافات حادة بين كبار المسؤولين، انعكست سلباً على كفاءة الأداء المؤسسي، وفاقمت من حال الشلل الإداري والفني داخل القطاع، مما أضعف قدرة الشركة القابضة على تنفيذ خطط الطوارئ أو الحفاظ على الحد الأدنى من الاستقرار التشغيلي.
وكانت الشركة السودانية لتوليد الكهرباء قد أعلنت في مارس (آذار) 2023، قبيل اندلاع الحرب، عن وجود عجز حاد في التوليد الكهربائي يقدر بـ450 ميغاواط، وشددت على ضرورة برمجة قطوعات موجهة لتفادي الانهيار الكامل للشبكة، وحينذاك صرح وزير المالية السوداني، جبريل إبراهيم، بأن الشبكة القومية لا تغطي سوى 40 في المئة فقط من سكان السودان، مما يبرز التفاوت الكبير في التوزيع الجغرافي للطاقة.
انقطاع كامل
شهد السودان خلال الأشهر القليلة الماضية تصعيداً خطراً في استهداف البنية التحتية الاستراتيجية، لا سيما مرافق إنتاج وتوزيع الكهرباء. أبرز هذه العمليات تمثل في الهجمات المتكررة بالطائرات المسيرة على سد مروي، الذي يعد الركيزة الأساسية لإنتاج الكهرباء في البلاد بطاقة إنتاجية تقارب 1250 ميغاواط، أي ما يغطي نحو 45 في المئة من حاجات السودان الكهربائية. وقد أعلن الجيش تصديه لهجمات عدة على المنطقة المحيطة بالسد، واتهم 'الدعم السريع' بالمسؤولية عنها، من دون أن يصدر تأكيد رسمي من الأخيرة.
تسببت الهجمات في أعطال جزئية بالمحطة الكهربائية في ولايتي نهر النيل والشمالية، مما دفع شركة كهرباء السودان إلى الإعلان عن إيقاف موقت لتشغيل السد لحمايته من أضرار أشد، وهو ما أدى إلى انقطاع كامل للتيار الكهربائي عن عدد من الولايات، ووفق بيان رسمي صادر عن الشركة فإن هذه الهجمات أصبحت شبه دورية، مما يجعل استمرار تشغيل السد يشكل خطراً مباشراً على سلامته.
وطاولت الهجمات بالطائرات المسيرة منشآت مدنية حيوية في بورتسودان، بما في ذلك الميناء ومستودعات الوقود ومحطة الكهرباء الرئيسة، في وقت تستضيف فيه المدينة مئات الآلاف من النازحين وتعد مقراً موقتاً للحكومة.
انعكس تضرر قطاع الكهرباء على القطاعات الحيوية الأخرى، كالصناعة والزراعة والخدمات الصحية. وتقدر الخسائر المباشرة في هذا القطاع بما يراوح بين 180 و200 مليار دولار، بينما تقدر الخسائر غير المباشرة بأكثر من 500 مليار دولار، أي ما يعادل نحو 13 ضعف الناتج المحلي السنوي للسودان، الذي يبلغ متوسطه نحو 36 مليار دولار.
ووفق تقارير هندسية تعرضت 90 في المئة من البنية الكهربائية الأساسية لأضرار متفاوتة، مما أدى إلى ارتفاع نسبة السكان المحرومين من الكهرباء إلى أكثر من 50 في المئة بعد الحرب، مقارنة بـ20 في المئة فقط قبل اندلاعها. ونهبت مكونات مهمة من الشبكات، أبرزها أسلاك النحاس داخل المحولات، مما عمق الخسائر في ولايات كالخرطوم والجزيرة، حيث أحرقت محطات بكاملها وسرقت معداتها.
خطة إسعافية
بسبب الانهيار المتسارع لشبكة الكهرباء الذي عم مناطق واسعة من السودان، لا سيما الولاية الشمالية والعاصمة الخرطوم، لجأ السودانيون نحو تركيب منظومات الطاقة الشمسية كحل بديل وطارئ لتأمين حاجاتهم الأساسية من الكهرباء، هذا التوجه لم يكن نتاج خطة حكومية ممنهجة، بل جاء استجابة تلقائية لحاجة ملحة، ويعكس التحول نحو مصادر الطاقة المتجددة.
وأكدت 'منصة الطاقة المتخصصة' في واشنطن أن الأزمة المتفاقمة في قطاع الكهرباء أدت إلى ارتفاع حاد في الطلب على الألواح الشمسية، خصوصاً في القطاعات السكنية والزراعية والصناعية، في ظل عدم تغطية الشبكة الوطنية أكثر من 35 في المئة فقط من مساحة السودان.
وأشار عضو مبادرة حلول الطاقة الشمسية، المهندس محمد المصطفى، إلى أن الحرب أجبرت كثيراً من الشركات والموردين على التوقف، مما أدى إلى نقص حاد في المعروض وارتفاع متوقع في الأسعار خلال عام 2025. وأفاد بأن 'أسعار الألواح تراوح ما بين 50 دولاراً للوح سعة 50 واط إلى 350 دولاراً للوح سعة 400 واط، في ظل ارتفاع كلف الشحن وانهيار قيمة الجنيه السوداني، مما جعل كلفة تركيب الأنظمة الشمسية ترتفع بنحو 300 في المئة مقارنة بالدول المجاورة'.
وشدد المصطفى على ضرورة وضع خطة إسعافية لتشغيل محطات المياه بالطاقة الشمسية، داعياً إلى إعفاء مكونات هذه الأنظمة من الرسوم الجمركية، وإنشاء مصانع لتجميع الخلايا الشمسية.
من جانبه حذر المحلل الاقتصادي علي عبدالقادر من الانتشار العشوائي لتجارة أنظمة الطاقة الشمسية، التي تدار في معظمها بواسطة أفراد يفتقرون إلى الخبرة، مما يسفر عن دخول معدات غير مطابقة للمواصفات وتباع بأسعار مرتفعة، من دون وجود معامل اختبار معتمدة لقياس الكفاءة، مما يثقل كاهل المستهلك خصوصاً المزارعين.
وذكر عبدالقادر 'على رغم أن توجه المواطنين نحو الطاقة الشمسية يعد حلاً لمواجهة انهيار النظام الكهربائي التقليدي، فإنه لا يزال مشوباً بالتحديات التنظيمية والتقنية والاقتصادية، مما يستوجب تدخل الدولة لضبط السوق، وتحفيز الاستثمار في الطاقة المتجددة باعتبارها خياراً استراتيجياً لا مفر منه'.
آثار مضاعفة
تشير المتخصصة البيئية آمال سيد أحمد إلى أنه 'في ظل غياب معامل الفحص والاختبار البيئي في معظم أنحاء السودان، والانفلات التجاري الذي أعقب اندلاع الحرب، فقد أسفر عن تدفق مدخلات طاقة شمسية مستوردة لا تتوافق مع المعايير البيئية أو الصحية، وتحوي مواد سامة كالرصاص والكادميوم والزئبق. هذه المواد، التي تمنع عادة في الأسواق المنظمة، تدخل السودان من دون رقابة، مما ينذر بكوارث بيئية وصحية وشيكة، لا سيما في ظل غياب مؤسسات رقابية فاعلة'.
وقد أدى هذا الانفلات إلى آثار مضاعفة، ليس على البيئة فحسب، بل على منظومة الطاقة المستدامة نفسها، مما يقوض ثقة المواطنين في الطاقة الشمسية، على رغم كونها أحد الحلول الاستراتيجية لمجابهة الانقطاعات المتكررة للكهرباء. وتشير البيانات إلى أن أكثر من 70 في المئة من واردات السودان من مستلزمات الطاقة الشمسية، خلال الفترة من منتصف 2023 حتى أوائل العام الحالي لم تخضع لأي نوع من الفحص المخبري، بحسب تقارير صادرة عن منظمات بيئية مستقلة.
وذكرت سيد أحمد أن 'غياب المؤسسية والرقابة نتيجة الحرب قد حول السودان إلى ساحة مفتوحة لتصريف النفايات التقنية والمواد الفاسدة التي ترغب بعض الدول في التخلص منها، فتكدست مئات الأطنان من النفايات السامة في مناطق متفرقة من البلاد، وهذه النفايات تسهم في تلوث التربة والمياه الجوفية، وتضاعف من معدلات الإصابة بأمراض الجهاز التنفسي والجلدي، من دون وجود خطة وطنية للتعامل مع هذه الكوارث المتراكمة'.
أزمة إنسانية
أصدرت منظمة 'أطباء بلا حدود' بياناً تحذيرياً أول من أمس السبت، نبهت فيه إلى التدهور الخطر الذي تشهده المنظومة الصحية في العاصمة الخرطوم، نتيجة انقطاع شامل للتيار الكهربائي مما أدى إلى تعطل مرافق حيوية، في ظل أزمة إنسانية آخذة في الاتساع. وأفادت المنظمة أن مدينة أم درمان تشهد للمرة الرابعة منذ مطلع العام الحالي انقطاعاً كبيراً للكهرباء، وذلك عقب هجمات نفذتها قوات 'الدعم السريع' باستخدام طائرات مسيرة استهدفت ثلاث محطات رئيسة للطاقة في ولاية الخرطوم. وتسبب هذا الانقطاع، بحسب والي الخرطوم أحمد عثمان حمزة، في 'شلل كبير في الخدمات الأساسية، شمل مرافق المياه والمستشفيات، مما عمق من معاناة السكان المدنيين في ظل ظروف أمنية ومعيشية شديدة القسوة'.
وأشار البيان إلى أن مستشفى النو، وهو المستشفى المرجعي الرئيس في أم درمان ويخدم أيضاً مناطق بحري والخرطوم، يواجه تهديداً في قدرته على الاستمرار في تقديم الخدمات الصحية، نظراً إلى نقص الكهرباء والأوكسجين والمياه، كذلك يشهد مستشفى البلك اضطرابات مماثلة، مما ينذر بانهيار شبه كلي للرعاية الصحية الأولية والثانوية في العاصمة.
ونددت المنظمة بالهجمات التي استهدفت منشآت لتخزين الوقود في مدينة بورتسودان، والميناء ومطار بورتسودان، مما أثر في حركة الإغاثة وأعاق دخول المساعدات الإنسانية والطواقم الطبية.
وفي ظل تعطل شبكة المياه العمومية، دعت لجان المقاومة إلى التنسيق مع منظمات إنسانية، لحفر آبار بديلة لتأمين حد أدنى من الإمداد المائي، خصوصاً في المناطق الأكثر هشاشة. وعلى رغم أهمية هذه المبادرات المجتمعية، فقد حذر أطباء من الاعتماد المتزايد على مصادر مياه غير مأمونة، كالآبار السطحية، مما ينذر بخطر صحي بالغ، يتمثل في ارتفاع معدلات الإصابة بالأمراض المنقولة عبر المياه، وعلى رأسها الكوليرا، التي تعود إلى الواجهة في كل موسم مطير أو أزمة خدمية حادة. وتتفاقم هذه الأوضاع في غياب بنية تحتية فعالة، ونظام رقابة صحية قادر على اختبار جودة المياه، مما يضع ملايين السكان أمام خطر صحي داهم في ظل انقطاع التيار الكهربائي وتراجع الخدمات الأساسية.
مسارات متعددة
يبذل السودان جهوداً لإعادة بناء منظومة الطاقة التي أصابها الانهيار شبه الكامل، عبر مسارات متعددة من التعاون الإقليمي والدولي، تهدف إلى تحقيق الاستقرار وتعزيز الأمن الاقتصادي. غير أن أي استثمار مستدام في هذا القطاع الحيوي لن يتحقق بمعزل عن تحقيق الاستقرار السياسي ووقف العمليات العسكرية، إلى جانب إطلاق عملية شاملة لإعادة إعمار البنية التحتية، وتكامل أداء القطاعات الاقتصادية كافة.
وفي هذا السياق، كشف وزير الطاقة والنفط السوداني، محيي الدين نعيم، عن محادثات نشطة مع القيادة المصرية لتوسيع نطاق الربط الكهربائي بين البلدين. وأوضح الوزير أن 'هناك اتفاقاً توصل إليه مع الحكومة الإثيوبية لتزويدها بكميات من غاز النفط المسال، مقابل الكهرباء، في خطوة قد تمهد لإعادة رسم العلاقات الإقليمية في ملف الطاقة على أسس تبادلية'، وأوضحت الوزارة أن هذه الإمدادات ستعتمد على المخزونات الوطنية من غاز الطهي المخزن في المستودعات، مما يعكس مساعي استثمار الموارد المتاحة ضمن حدود الإمكانات الراهنة.
ويسعى السودان إلى تعميق التعاون مع الصين، الشريك المحوري في مشروعات الطاقة المتجددة. ففي الرابع من سبتمبر (أيلول) 2024، شهد الفريق عبدالفتاح البرهان، توقيع اتفاقات مع شركات صينية في مجالات الطاقة الشمسية والتعدين وخطوط النقل، على هامش المنتدى الصيني - الأفريقي في بكين.
ويجمع مراقبون على أن إنقاذ قطاع الكهرباء في السودان يتطلب خطة استراتيجية تتجاوز الحلول الجزئية، وتشمل إصلاحات هيكلية جذرية، إلى جانب ضمان الاستقرار الأمني وتوفير التمويل الخارجي، لإعادة تأهيل الشبكة الوطنية وضمان استدامة الطاقة كأحد أعمدة النهوض الاقتصادي والتنمية المستقبلية.