اخبار المغرب
موقع كل يوم -العمق المغربي
نشر بتاريخ: ٤ تموز ٢٠٢٥
أكد الكاتب والأكاديمي الفرنسي السويسري جان ماري هيدت أن الخطاب الانفصالي فقد ما كان يستند إليه من مبررات تاريخية وإيديولوجية، بفعل التحولات الجيوسياسية العميقة التي تعرفها الأقاليم الجنوبية للمغرب، وبفضل الدينامية التنموية التي تشهدها المنطقة، معتبرا أن تفاعله الميداني مع السكان المحليين كشف له عمق الانتماء المغربي في هذه الربوع، وتجذر البيعة كرمز موحد للولاء الوطني، مشددا على أن الخصوصيات الثقافية للجنوب لا تضعف الوحدة، بل تُثريها وتعززها.
وفي حوار حصري مع جريدة 'العمق المغربي'، قال مؤلف كتاب 'الصحراء المغربية.. أرض النور والمستقبل'، إن الصحراء تمثل 'قطعة الأحجية التي استعادت موقعها الطبيعي ضمن الصورة الكبرى للمملكة'، مبرزا أن تأسيس جبهة البوليساريو ما كان ليحدث لولا الدعم الجزائري، وأن الطرح الانفصالي بات من بقايا مرحلة استعمارية متجاوزة، مشددا على أن مقترح الحكم الذاتي المغربي لم يعد مجرد 'مبادرة'، بل أصبح 'مرجعية عالمية' يتبلور حولها توافق دولي متزايد، ومؤكدا أن النموذج التنموي في الأقاليم الجنوبية يرتقي إلى مستوى 'استراتيجية سيادية' و'دبلوماسية داخلية' تفرض نفسها كحل عملي ونهائي للنزاع المفتعل.
وفي مايلي نص الحوار الكامل:
كيف أثرت لقاءاتكم وتفاعلكم مع السكان المحليين على تصوركم الأولي حول الصحراء؟
في لقاءاتي الأولى مع السكان المحليين، لم يدر بخلدي قط أنني سأقدم على تأليف كتاب عن الأقاليم الجنوبية للمملكة. لقد اكتشفت هذه المناطق تدريجيا عبر لقاءات عديدة، فلاحظت تميز أهل الجنوب بثقافة وتاريخ يختلفان بعض الشيء عما كنت أعرفه عن باقي مناطق المغرب. ومع ذلك، فإن هذا الشعب يؤكد بقوة انتمائه المغربي وولائه للبيعة، ذلك العهد الثابت بالولاء لجلالة الملك. وقد أدركت حينها مجددا مدى أهمية هذا الرمز ذو القيمة المضافة العالية في تعزيز الوحدة الوطنية، من خلال جمع مختلف مكونات المجتمع المغربي، داخل الوطن وخارجه، حول الملك كرمز للاستقرار والاستمرارية.
كما أكدت لي خصوصيات الأقاليم الجنوبية وجود ثراء فريد نابع من التنوع الثقافي المغربي؛ وهو تنوع يعكس أبعاداً تاريخية وثقافية وروحية، تغذيه روح التصوف المغربي الذي يكرّس إسلاما معتدلا ومتسامحا ومنفتحا على الآخر، بالإضافة إلى تأثير المناطق المتوسطية المتشبعة بالفلسفات العربية وأنوار الأندلس. ولا يمكننا إغفال تأثير الثقافة الإفريقية التي تُكمّل هذا التنوع الفريد، القائم على قيم الاحترام المتبادل، والولاء، والثقة. إن الصحراء المغربية تمثل بحق قطع أحجية كانت مفقودة، وقد استعيدت أخيرا لتعيد اكتمال الصورة.
كيف ترد على الإيديولوجيات الانفصالية التي تسعى إلى تزوير الحقيقة التاريخية لمغربية الصحراء؟
من المؤسف أن يتم الترويج لروايات مزيفة عن الحقيقة التاريخية. فالمؤرخون المحترفون يدركون تماما كيف أسهمت التأثيرات السياسية في فترات معينة في تغيير حدود الأراضي. لقد اقتسم الغرب هذه المساحة الشاسعة المعروفة بالصحراء، الممتدة من المحيط الأطلسي إلى البحر الأحمر، تاركين وراءهم حدودا مصطنعة قبل أن يغادروا.
السكان الصحراويون يتكونون من قبائل، وكان نمط حياتهم تقليديا بدويا، وإن تحول بعضهم إلى حياة شبه مستقرة أو استقرار حضري وقروي. ولهذا أعتقد أن الإيديولوجيا الانفصالية تنتمي إلى زمن الاستعمار.
اليوم، الشعوب تتطلع للعيش بحرية على أرض أجدادها. الصحراويون المغاربة اختاروا العيش بحرية في أرضهم، وهم يعترفون بهذه الأرض كجزء من الدولة العلوية والمملكة المغربية. جميع الشعوب تتطلع إلى السلام، ويجب أن يكون هذا الحق متاحا لكل الصحراويين.
هل أثار مؤلفكم الجديد 'الصحراء المغربية، أرض النور والمستقبل' ردود فعل رسمية أو غير رسمية من أطراف أخرى في هذا النزاع، مثل جبهة البوليساريو أو الجزائر؟
لم أواجه أي ردود فعل خاصة عند صدور الكتاب. صحيح أن بعض الأفراد وجهوا لي انتقادات على مواقع التواصل الاجتماعي، لكن ذلك كان بصفة فردية وليس مؤسساتية. لم يكن هدفي من الكتاب إثارة جدل أو تغذية هذا النزاع المصطنع، بل عرض وجهة نظري حول ما أصبحت عليه هذه الأرض اليوم، دون الإساءة إلى أحد، مع تذكير بسيط ببعض الحقائق التاريخية.
الجزائر تقول إنها ليست طرفا مباشرا في نزاع الصحراء بل مجرد مراقب أو داعم لحق الشعوب في تقرير المصير. كيف تُقيّمون هذه المواقف في ضوء تدخلاتها الدبلوماسية والسياسية؟
من المؤسف حقا أن نقرأ أو نسمع ادعاء الجزائر بأنها ليست طرفا مباشرا في هذا النزاع. فواقع الحال يؤكد أن تأسيس البوليساريو ثم الجمهورية الصحراوية الديمقراطية المزعومة ما كان ليتحقق قط لولا الدعم، لا سيما الجزائري. خلال لقاءاتي المتعددة، تسنى لي التحاور مطولا مع العديد ممن كانوا أعضاء مؤسسين لجبهة البوليساريو. وقد أوضحوا لي أسس هذا التوجه منذ نشأته، الذي انطلق من رغبة الطلاب المغاربة حينذاك في مواجهة المستعمر الإسباني.
لقد انسحبوا من هذا الحراك لسببين؛ الأول لانسحاب المستعمر الإسباني من الأراضي المغربية، والثاني لكونهم كانوا على خلاف تام مع القيادة الجديدة للبوليساريو. بالنسبة لهؤلاء الأعضاء السابقين، كان عرض المغرب لاستعادة أراضيه يمثل قيمة عظيمة للسلام والاستقرار بالنسبة للسكان. من خلال شهادات هؤلاء الأعضاء السابقين أنفسهم، استخلصتُ أن الجزائر كانت تُقدّم بوضوح كفاعل مهم أسهم في تطور البوليساريو ومن ثم 'الجمهورية الصحراوية الديمقراطية' المزعومة.
لو كانت الجزائر ترغب حقا في أن تكون مراقبا وداعما لحقوق الشعوب بالدرجة الأولى، لكانت قد وضعت رفاهية السكان على رأس أولوياتها. أقرّ بأنني مثاليّ، ولكني أؤمن حقا أنه لم يفت الأوان بعد؛ فحلٌ دائمٌ لا يزال ممكنا، ويعود بالنفع على الجميع. لا يزال بإمكان الجزائر أن تضع مصلحة النساء والأطفال والرجال الصحراويين في المقام الأول، وذلك بوضع حد 'للجمهورية الصحراوية الديمقراطية' المزعومة، وتطوير خطابها داخل الأمم المتحدة، وتقدم للصحراويين في الجزائر ما قدّمه المغرب، وأيضا موريتانيا، لهذه القبائل. إنه خيار سياسي يحقق مكاسب لجميع الأطراف، ويمكن للمغرب العربي من خلاله أن يستعيد مكانته كقوة إقليمية حقيقية. فهل تلقى اليد الممدودة من صاحب الجلالة ملك المغرب تجاوبا؟'
هل تعتقدون أن المغرب نجح، من خلال التنمية الاقتصادية والاجتماعية في الأقاليم الجنوبية، في تحويل قضية الصحراء من نزاع سياسي إلى نموذج تنموي يُوظف كأداة دبلوماسية داخلية لإقناع المجتمع الدولي بمغربية الصحراء؟ وهل ترون أن هذه المقاربة التنموية تمثل الطريق الأمثل نحو إنهاء هذا النزاع بشكل دائم؟
نعم، إن التنمية الاقتصادية والاجتماعية هي حجة دامغة لإثبات إمكانية توفير حياة أفضل لأي إقليم. وقد ذهب النموذج المغربي إلى أبعد من ذلك بكثير في مقترحه، إذ أخذ بعين الاعتبار البعدين الثقافي والتعليمي. فخصوصية الصحراويين فيما يتعلق بلغتهم، وحرفهم اليدوية، ونظامهم التعليمي، ومكانة المرأة، وغيرها من الجزئيات، كلها أُخذت في الحسبان منذ بداية تفعيل الجهوية المتقدمة.
يجب التذكير بأن هذا الإصلاح ليس مجرد إعادة تقسيم ترابي تقني. بل على العكس تماماً، إنه إرادة ملكية، تم الإعلان عنها بوضوح منذ اعتلاء جلالته العرش عام 1999، تهدف إلى البحث عن المستوى الأمثل للعمل العمومي الذي سيعطي الأولوية لاتخاذ القرار الأقرب إلى المواطن. وقد أصبح مشروع المبادرة المغربية للحكم الذاتي للأقاليم الجنوبية مختبراً حقيقياً للحكم الذاتي.
تجسدت النتيجة في هذا النمط الجديد للحكامة الذي يشمل اليوم سائر أنحاء البلاد، ولكنه تطور أولا في الأقاليم الجنوبية. يتعلق الأمر بمقاربة متعددة الأبعاد تتضمن جانبا اقتصاديا، واجتماعيا، وبيئيا، وثقافيا، وتعليميا، وبالطبع جانبا يخص الحكامة. إنها أداة حقيقية لـ'الدبلوماسية الداخلية'. أليس تطوير مشروع كبير كهذا بانخراط حقيقي وفعال من السكان علامة على اعتراف سيادي لشعب يؤكد مغربيته؟
كيف تُقيّمون دور الأمم المتحدة في مواكبة تطورات ملف الصحراء، خصوصا في ظل تركيز المغرب على التنمية بدل الصراع؟
للأسف، حاولت الأمم المتحدة التعامل مع النزاع بنفس منطق صراعات أخرى. لكنها أغفلت الواقع الميداني والمعطى الثقافي والتاريخي.
صحيح أن قوات حفظ السلام ضرورية، وأن المبعوثين الأمميين يلعبون دورًا مهمًا، لكن حين تغيب بعض المعطيات أو تشوبها الاعتبارات الجانبية، تطول مسارات الحلول. المبادرة المغربية كان يجب أن تُؤخذ على محمل الجد منذ البداية، لأنها تظل إلى اليوم الحل الواقعي الوحيد.
ما هي العناصر التي تجعل مبادرة الحكم الذاتي المغربية قابلة للتطبيق دوليا؟ وما هي التحديات التي تعيق قبولها الكامل؟
أنا مقتنع أن المبادرة المغربية أثبتت فعاليتها لصالح الشعب. أكثر من 117 دولة تدعم هذه المبادرة، وهو مشروع ملكي مسؤول منذ 2007، لا يقدم فقط عرض سلام، بل هو الأفق السياسي الوحيد لحل النزاع. أصبحت المبادرة مرجعية أساسية حولها يتبلور توافق دولي متنام. ومنذ 2013، اتجهت الرؤية الملكية إلى أبعد من ذلك، من خلال مشروع لإعادة بناء إفريقيا كقوة حضارية، تلعب فيه الأقاليم الجنوبية دورًا محوريا.
مع تزايد الاعترافات بمغربية الصحراء، لا سيما من قبل دول لها عضوية دائمة في مجلس الأمن، ما هو تأثير هذه التطورات على المواقف الدولية المتبقية؟
أعتقد جديا بوجود تأثير 'كرة الثلج' الذي سيعزز انضمام المزيد من الدول. إن هذه الإنجازات العديدة هي دليل على قدرة المغرب على مراعاة رفاهية سكانه المقمين داخل البلاد وخارجها، مع الاندماج في بيئة أوسع بكثير لمد يد العون لدول أفريقيا. من الجنوب إلى الشمال ومن الغرب إلى الشرق من العالم، أصبح المغرب كوكبة من النجاح والإعجاب. هذا الوضع يضع المغرب الآن كفاعل عالمي موثوق به يتطور في بيئة مستقرة.
ما هو الدور الاستراتيجي الذي ترونه مستقبلاً للصحراء المغربية كبوابة تجارية أطلسية للدول الإفريقية؟
الدول الإفريقية، خاصة الواقعة في الساحل وغرب القارة، ستحقق تقدمًا كبيرًا في التجارة بفضل الوصول إلى المحيط الأطلسي. تم تخصيص مساحات كبيرة لها في ميناء الداخلة الأطلسي، مع توفير طرق مواصلات تسهّل الوصول إليه. وسيُتيح لها ذلك الانفتاح التجاري على العالم. وقد انتبه المستثمرون الأوروبيون والأمريكيون لهذا الإمكان الهائل، وبدأوا فعلا في الانخراط فيه.