اخبار المغرب
موقع كل يوم -الأيام ٢٤
نشر بتاريخ: ٦ أيار ٢٠٢٥
في زمن صارت فيه 'الحقيقة' سلعة نادرة، والمعلومة تخرج من مختبرات الذكاء الاصطناعي قبل أن تمر من عقول الناس، وقف أستاذ القانون الدستوري والعلوم السياسية بجامعة سيدي محمد بن عبد الله بفاس، أمين السعيد، وسط مدرج جامعي بسطات، ليقول ما يشبه صرخة في زمن 'اللامبالاة الرقمية': الديمقراطية تعرف تراجعا مقلقا.. والعالم يعيش لحظة انحدار ديمقراطي كبير يتجاوز الأزمات السياسية التقليدية.
السعيد الذي حل ضيفا على كلية العلوم القانونية والسياسية بجامعة الحسن الأول، في إطار سلسلة 'ضيف على الماستر' التابعة لبرنامج 'ماستر الحكامة الأمنية والهندسة السيبرانية'، لم يكتف بتشخيص الأزمة، بل نزل عميقا إلى الجرح النازف للديمقراطية في عصر باتت فيه صناديق الاقتراع تبرمج وتخترق وتسير من خلف شاشات لا أحد يعرف أصحابها، حيث لم يعد 'النقاش حول علاقة الديمقراطية بالهندسة السيبرانية والذكاء الاصطناعي ترفا فكريا، بل ضرورة لفهم مستقبل الحكم والمشاركة السياسية في ظل متغيرات تكنولوجية متسارعة تعيد تشكيل أسس المجتمعات والدول وتطرح أسئلة عميقة حول حياد الأدوات الرقمية وتأثيرها'، يقول السعيد بلغة لا لبس فيها.
لقد مضى زمن الحالمين الذين ظنوا أن تويتر وفيسبوك سيحاربان الاستبداد ويجلبان الحرية. نعم، يضيف السعيد: 'بعد أن سادت موجة من التفاؤل في مطلع العقد الماضي حول قدرة وسائل التواصل الاجتماعي والتكنولوجيا الرقمية على تعزيز المشاركة والمساءلة وإسقاط الأنظمة الاستبدادية، كما لوحظ في أحداث 2011، انقلبت الصورة اليوم بشكل كبير'.
اليوم، تقارير المنظمات الدولية لا تتحدث عن 'ربيع رقمي'، بل عن شتاء طويل وصقيع من التلاعب الرقمي. 'الدراسات والتقارير الدولية الحديثة تكشف بشكل متزايد كيف أصبحت هذه الأدوات نفسها تستخدم كسلاح لتقويض الديمقراطية، وتعميق الاستقطاب، ونشر الفوضى المعلوماتية، بالتزامن مع موجة التراجع الديمقراطي التي تشهدها حتى أعرق الديمقراطيات الغربية'، يضيف السعيد.
المشكلة لم تعد فقط في قدرة الشعوب على التصويت، بل في نزاهة الطريق المؤدي إلى التصويت. 'البنية التحتية الرقمية للانتخابات، بدءا من تسجيل الناخبين وصولًا إلى فرز الأصوات ونشر النتائج، أصبحت عرضة لهجمات سيبرانية معقدة قد يصعب تحديد مصدرها بدقة'، يحذر السعيد.
الأدهى من ذلك، أن 'حماة' هذه الديمقراطية أنفسهم تحولوا إلى تجار: 'يزيد من خطورة الوضع الاعتماد المتزايد على شركات تكنولوجية خاصة عملاقة، يطلق عليها أحيانا ‘بائعو الانتخابات’، لتأمين هذه البنية الحساسة، وهي شركات تفتقر غالبا للرقابة الكافية وتتفوق تقنيا ولوجستيا على قدرات الدولة نفسها'.
وعن أخطر الأسلحة التي تهدد الديمقراطية، يقول السعيد: 'لعل التهديد الأشد فتكا الذي تواجهه الديمقراطيات اليوم هو وباء التضليل الرقمي، الذي يتغذى على أدوات الذكاء الاصطناعي والهندسة السيبرانية. فمن خلال الأخبار الزائفة، وتقنيات التزييف العميق (Deepfakes)، والحملات الممنهجة التي تديرها الروبوتات أو الحسابات الآلية، يتم التلاعب بالرأي العام وتشويه سمعة المرشحين وتوجيه سلوك الناخبين'.
وفي مثل هذا المناخ المسموم، تنهار الثقة وتُفرغ المؤسسات من معناها، وتستفيد الأنظمة السلطوية من هذه 'الهدية التكنولوجية' لتقوية قبضتها الحديدية. 'الأنظمة السلطوية تستفيد بشكل خاص من هذه الأدوات لترسيخ هيمنتها، وقمع المعارضة، ومراقبة المواطنين، وتصدير نماذجها القمعية، متحالفة أحيانا مع شركات تكنولوجية كبرى ترى في غياب القيود الديمقراطية فرصة لتحقيق أرباح طائلة'، يوضح السعيد.
ويرى السعيد أن الديمقراطيات لم تعد بمنأى عن الخطر، فاليمين المتطرف والشعبويون وجدوا في المنصات الرقمية ساحة للتهييج والشحن، موضحا بالقول: 'تشهد الديمقراطيات نفسها صعودا مقلقا لليمين المتطرف والتيارات الشعبوية التي أثبتت براعة فائقة في استخدام المنصات الرقمية لتأجيج الاستقطاب، ونشر خطابات الكراهية ضد المهاجرين والأقليات، وتعبئة الأنصار عبر استغلال مشاعر الخوف والسخط، والالتفاف على النقاش العقلاني'.
وأضاف الأستاذ الجامعي فيما يشبه قرع الجرس: 'الهندسة السيبرانية والذكاء الاصطناعي لا يهددان الانتخابات فقط، بل جوهر الديمقراطية ذاتها. نحن أمام مرحلة ما بعد الديمقراطية، حيث قد تستمر الإجراءات الديمقراطية الشكلية، لكن صناعة القرار الحقيقي تنتقل إلى نخب اقتصادية وتكنولوجية ضيقة، ويتم إفراغ النقاش العام من مضمونه عبر فيض المعلومات المضللة'.
وفي الختام، دعا السعيد إلى يقظة جماعية و'مواجهة هذه التحديات المعقدة التي تتطلب جهودا جبارة تتجاوز الحلول التقليدية، من وضع ضوابط قانونية صارمة على الشركات التكنولوجية، إلى تعزيز الوعي المجتمعي بمخاطر التضليل الرقمي، وتطوير القدرات التقنية للدفاع عن البنى التحتية الحيوية'.
لكن رغم ذلك، يعترف الرجل بمرارة العارف: 'يبقى مستقبل الديمقراطية في العصر الرقمي محفوفا بالغموض، ويتطلب يقظة مستمرة ونقاشا مجتمعيا عميقا، خاصة في المجتمعات التي قد تفتقر لأدوات التحقق والتحصين ضد التلاعب'.