اخبار المغرب
موقع كل يوم -العمق المغربي
نشر بتاريخ: ٢٤ حزيران ٢٠٢٥
مع إسدال الستار على الموسم الدراسي الحالي، يترجل فارس من نبلاء التربية والتعليم، الأستاذ الحسين لنداوي، أو 'سي الحسين' كما يحلو لتلاميذه وزملائه وأصدقائه مناداته، عن صهوة عطاء امتد لواحد وأربعين عاما، تاركا وراءه فراغا يصعب ملؤه، وإرثا من القيم الإنسانية النبيلة بقدر ما هو إرث من المعرفة.
إن تقاعده، كما يجمع معارفه، ليس مجرد نهاية مسار وظيفي، بل هو توقف نبض استثنائي في شرايين قطاع التعليم؛ نبض كان يضخ حبا وإحساسا وتفانيا في كل زاوية من فصوله الدراسية، بل وفي كل ركن من أركان المؤسسات التي احتضنته، حتى باتت هي الأخرى تشعر بثقل هذا الفراق وتئن لغيابه.
الكلمات التي ألقيت في حفل التكريم الذي نظم على شرفه يوم السبت الماضي، أجمعت على أن سي الحسين لم يكن مجرد أستاذ يلقن الحروف ويشرح الدروس ضمن حدود واجبه المهني، بل كان نبعا فياضا من المشاعر الإنسانية الصادقة، وروحا معطاءة تجاوزت أسوار الفصل الدراسي. فعطاؤه لم يكن مقتصرا على أداء واجبه التعليمي الروتيني، بل امتد ليشمل كل شبر من المؤسسات التي مر بها أو استقر فيها.
ويستذكر أحد الأساتذة الذين زاملوه كيف أنه شوهد مرات عديدة، في أوقات فراغه، وهو منهمك بحب وشغف، يغرس بيديه الطاهرتين شجيرات تظلل الساحة، أو ينظف المرافق الصحية بعناية فائقة، أو يكنس فناء المدرسة، مؤمنا بأن 'البيئة النظيفة والمرتبة والجميلة جزء لا يتجزأ من التربية السليمة ومن راحة نفس المتعلم والمعلم'. لقد كان يرى في خدمة المكان الذي يعمل فيه امتدادا لرسالته التربوية، وعربون محبة للمجتمع المدرسي، وفق تعبيره.
ويضيف زميل آخر، وعلامات الحسرة بادية على محياه: 'كان ذلك الأب الروحي الذي يقرأ في عيون تلاميذه ما يعجزون عن البوح به، فيقلق لقلقهم ويفرح لفرحهم. دموعه كانت قريبة، لا تكاد تخفي تأثره بمعاناة تلميذ فقير أو قصة طفل يواجه صعوبات الحياة. كان قلبه يتسع للجميع، يتألم بصمت لأجلهم، ويحمل همومهم كأنها همومه الشخصية. هذا الإحساس المرهف لم يكن ليخفى على أحد، فقد كان يترجم إلى أفعال يومية، صغيرة في حجمها، عظيمة في معناها، سواء داخل الفصل أو في محيط المدرسة العام'.
ومن مناقبه التي ستظل محفورة في ذاكرة من عاصروه، كرمه الذي لا حدود له. يقول أستاذ عايشه عن قرب: 'سي الحسين لم يكن يملك شيئا لنفسه، بل كان كل ما في يده متاحا لكل من طرق بابه.
لم يتردد يوما في أن يقتسم زاده وماله القليل مع محتاج، بل كان يبادر أحيانا، في لفتات إنسانية عفوية، بإحضار الحلويات ليوزعها على الأطفال، لتُشرق البسمة على وجوههم البريئة، وحتى على بعض زملائه الأساتذة، في رسالة صامتة مفادها أن المحبة والتآزر هما زاد الطريق. لقد كان يرى في إسعاد الآخرين سعادة له، وفي تخفيف آلامهم راحة لضميره'.
رحلة العطاء هذه بدأت جذورها من تربة قرية تيموليلت الهادئة بإقليم أزيلال، حيث رأى النور في الثاني عشر من يونيو عام 1962. هناك، في كنف عائلة قروية بسيطة، نشأ وترعرع رفقة سبعة إخوة، مستلهما من بساطة الحياة قيم الأصالة والجد. طفولته، كأقرانه، كانت مزيجا من حب الاستكشاف، وشغف بالقراءة في رحاب المسجد، ومساعدة الأسرة في أعمال الزراعة والرعي، مما صقل شخصيته وزرع فيه بذور المسؤولية مبكرا.
المدرسة العمومية بتيموليلت كانت محطته الأولى في رحلة العلم والمعرفة خلال موسم 1969-1970، تحت إشراف أساتذة أفاضل تركوا بصمتهم في تكوينه. وبعد نيله الشهادة الابتدائية موسم 1974-1975، واصل مسيرته التعليمية متنقلا بين إعدادية أفورار، ثم السلك الثانوي بالثانوية الجديدة بأزيلال، حيث توّج جهوده بالحصول على شهادة البكالوريا موسم 1983-1984.
طموحه قاده إلى مدينة مراكش لمتابعة دراسته الجامعية في شعبة اللغة العربية، لكن الأقدار رسمت له طريقا آخر، طريق العطاء المباشر في ميدان التربية، فالتحق بصفوف وزارة التربية الوطنية آنذاك عبر بوابة مركز تكوين المعلمين والمعلمات بمدينة الرباط موسم 1984-1985.
في السادس عشر من شتنبر عام 1985، انطلقت مسيرة سي الحسين المهنية الفعلية بإحدى مدارس إغرم بتارودانت. هناك، وفي قلب بيئة قاسية تتسم بقساوة الطبيعة وانعدام الماء والكهرباء وصعوبة المواصلات، قضى خمس سنوات كانت بمثابة مدرسة حقيقية للحياة. راكم خلالها تجارب مهنية غنية، ونسج علاقات اجتماعية متينة مع زملائه وأهل القرية، الذين كان لهم الفضل، كما يذكر دائما، في تسهيل اندماجه وتأقلمه. ثم انتقل إلى منطقة تيلوكيت، حيث عمل بفرعية آيت سيمور لمدة سنتين (موسم 90-91 وموسم 91-92)، مواصلا رسالته بنفس الشغف والتفاني.
لكن المحطة الأبرز والأطول في مسيرته كانت مجموعة مدارس أمليل، التي التحق بها موسم 1992-1993. في هذه المؤسسة، قضى سي الحسين ثلاثة وثلاثين عاما، متنقلا بين فرعياتها، كالشمعة التي تحترق لتنير دروب الآخرين، وكالبستاني الذي يرعى كل زهرة ونبتة بحب.
سنوات طويلة كانت حافلة بالتجارب الثرية، والعلاقات الإنسانية الدافئة مع الزملاء والزميلات، ومع أصدقائه وتلاميذه وذويهم، وسكان المنطقة الذين أحبهم وأحبوه، وبادلوه الوفاء بالوفاء. لقد أصبح جزءا لا يتجزأ من نسيجهم الاجتماعي، وشاهدا على تحولات أجيال وتطور المنطقة.
والآن، بعد هذه السنوات التي مرت كلمح البصر، كما يصفها هو نفسه، يطوي الحسين لنداوي صفحة مهنية مشرقة، ليُحال على التقاعد، تاركا وراءه ذلك الملاذ الذي كان يجد فيه راحته وذاته، بين ضحكات تلاميذه الصغار، ودفء زملائه وأصدقائه. يترك فصولا دراسية شهدت على صبره وحكمته، وساحات مدارس رددت صدى نصائحه وتوجيهاته، وأشجارا زرعها ستظل شاهدة على كرم روحه.
إن تقاعد سي الحسين لنداوي ليس مجرد رقم يضاف إلى سجل المتقاعدين، بل هو خسارة لمنظومة تعليمية كانت في أمس الحاجة إلى أمثاله. فالفراق لا يقتصر على تلاميذه وزملائه فحسب، بل إن جدران المؤسسات التي عمل بها، والأشجار التي زرعها بيديه، والساحات التي اعتنى بها كأنها جزء من بيته، كلها اليوم تئن لفراقه، تشعر بثقل غياب رجل نادر كرس حياته ليس فقط للتعليم، بل لخدمة المكان الذي احتضن رسالته.
'نعم، حتى تلك الأشجار ستفتقد ظله ورعايته، ستفتقد ذلك الرجل الذي فهم أن التربية هي بناء للإنسان والمكان معا'، بهذه الكلمات المؤثرة عبّر صديق مقرب للسي الحسين عن هذا الشعور في حديث لجريدة 'العمق'.