وجهة نظر: تحديد هوية المستفيد الفعلي... حجر الأساس في مكافحة الجرائم المالية

في عالم تزداد فيه تعقيدات الجرائم المالية، وتتسارع الابتكارات التي تستغل الثغرات القانونية والتقنية، يبرز تحديد هوية «المستفيد الفعلي» كأحد أقوى الأدوات لحماية النظام المالي العالمي من الاستغلال.المستفيد الفعلي هو الشخص الطبيعي الذي يمتلك أو يتحكم فعليًا في كيان قانوني، سواء كان شركة أو صندوقا أو حسابا، ويستفيد منه اقتصاديًا.وعلى الرغم من أن اسمه قد لا يظهر في الوثائق الرسمية، فإن أثره المالي والتنظيمي يفرض حضوره خلف الكواليس. ولأن الجرائم المالية لا تُرتكب علنا، فإن ملاحقة المستفيدين الفعليين تشكّل جوهرًا استباقيا لتجفيف منابع الفساد، والتهرب الضريبي، وتمويل الإرهاب.الملكية المستفيدة... المفهوم والدلالاتيمتد مفهوم «الملكية المستفيدة» ليشمل كل من له سيطرة فعلية أو منفعة اقتصادية، ولو من خلال ترتيبات معقّدة مثل الشركات الوهمية أو علاقات الملكية غير المباشرة.ولا يقتصر التحدي على تحديد من يملك، بل يمتد لتحديد من «يسيطر» فعليًا، وهو أمر قد يتضمن علاقات عائلية، أو توكيلات، أو اتفاقات شفهية.ويُقدَّر أن تريليونات الدولارات تمرّ سنويًا عبر كيانات قانونية تعتمد على هذه الهياكل، مما يجعل غياب الشفافية تهديدًا لأسس الحوكمة الرشيدة والنزاهة المالية.الروابط بين غسل الأموال وتمويل الإرهاب والملكية المستفيدة

في عالم تزداد فيه تعقيدات الجرائم المالية، وتتسارع الابتكارات التي تستغل الثغرات القانونية والتقنية، يبرز تحديد هوية «المستفيد الفعلي» كأحد أقوى الأدوات لحماية النظام المالي العالمي من الاستغلال.

المستفيد الفعلي هو الشخص الطبيعي الذي يمتلك أو يتحكم فعليًا في كيان قانوني، سواء كان شركة أو صندوقا أو حسابا، ويستفيد منه اقتصاديًا.

وعلى الرغم من أن اسمه قد لا يظهر في الوثائق الرسمية، فإن أثره المالي والتنظيمي يفرض حضوره خلف الكواليس.

ولأن الجرائم المالية لا تُرتكب علنا، فإن ملاحقة المستفيدين الفعليين تشكّل جوهرًا استباقيا لتجفيف منابع الفساد، والتهرب الضريبي، وتمويل الإرهاب.

الملكية المستفيدة... المفهوم والدلالات

يمتد مفهوم «الملكية المستفيدة» ليشمل كل من له سيطرة فعلية أو منفعة اقتصادية، ولو من خلال ترتيبات معقّدة مثل الشركات الوهمية أو علاقات الملكية غير المباشرة.

ولا يقتصر التحدي على تحديد من يملك، بل يمتد لتحديد من «يسيطر» فعليًا، وهو أمر قد يتضمن علاقات عائلية، أو توكيلات، أو اتفاقات شفهية.

ويُقدَّر أن تريليونات الدولارات تمرّ سنويًا عبر كيانات قانونية تعتمد على هذه الهياكل، مما يجعل غياب الشفافية تهديدًا لأسس الحوكمة الرشيدة والنزاهة المالية.

الروابط بين غسل الأموال وتمويل الإرهاب والملكية المستفيدة

تشير التجارب الدولية إلى أن غالبية عمليات غسل الأموال وتمويل الإرهاب تمرّ عبر هياكل تفتقر إلى شفافية الملكية.

فالمجرمون، ومن بينهم منظمات إرهابية، يستخدمون الشركات الصورية لتحريك الأموال، متجاوزين بذلك أنظمة الرقابة المالية. ومن دون تحديد هوية المستفيد الفعلي، تصبح هذه الأنشطة عصيّة على الرصد.

وقد كشفت تحقيقات دولية كيف أن المستفيدين الفعليين يختفون خلف ستار بيروقراطي يصعب اختراقه دون تنسيق دولي مشترك.

التجارب المقارنة... بين الشفافية والانغلاق

وأظهرت التجارب القانونية الدولية تباينًا كبيرًا في التعامل مع الإفصاح عن المستفيدين الفعليين.

ففي المملكة المتحدة، تم إطلاق سجل «الأشخاص ذوي السيطرة الكبيرة»، الذي يُعد من أكثر التجارب انفتاحًا، إذ يتيح للعامة معرفة المالكين الحقيقيين للشركات.

وفي المقابل، اختارت المكسيك نموذجًا يعتمد على التعاون بين الجهات الحكومية دون إتاحة البيانات للعامة، بهدف تعزيز الرقابة دون تعريض المعلومات الحساسة للاستخدام الضار.

وفي دول الاتحاد الأوروبي، تم دمج مبدأ الإفصاح ضمن التوجيهات الأوروبية لمكافحة غسل الأموال، رغم التحديات التقنية والقانونية في التنفيذ.

التحديات القانونية والتقنية

ومن أبرز التحديات التي تعترض سبل تحديد هوية المستفيد الفعلي، غياب تعريف عالمي موحّد يحدد بدقة مَن يُعد «مستفيدًا فعليًا»، وما هي نسب السيطرة أو الملكية التي تستوجب الإفصاح، مما يؤدي إلى تفاوت التشريعات بين الدول. كما تختلف عتبات الإفصاح بشكل كبير، إذ تعتمد بعض الدول نسبة 10 بالمئة، بينما تكتفي أخرى بـ 25 بالمئة، مما يفتح المجال للتحايل عبر توزيع الحصص بين عدة أطراف.

ويضاف إلى ذلك ضعف الشفافية في العديد من الملاذات الضريبية التي تتيح إخفاء الهويات الحقيقية تحت غطاء قانوني مُعقّد. أما على الصعيد التقني، فإن قصور البنية التحتية في بعض الدول يعوق إنشاء قواعد بيانات رقمية مترابطة وشاملة. كما يشكّل التضارب القائم بين متطلبات الشفافية وحقوق الخصوصية القانونية تحديًا مستمرًا، خاصة في الأنظمة التي تحمي البيانات الشخصية بشكل صارم، مما يتطلب حلولا قانونية متوازنة تجمع بين مكافحة الجرائم المالية وضمان احترام الحقوق الفردية.

التقنيات المساندة... الذكاء الاصطناعي والـ «بلوك تشين»

فتحت التكنولوجيا آفاقًا جديدة لتحديد الملكية الفعلية بشكل أكثر دقة وكفاءة.

فأنظمة الذكاء الاصطناعي أصبحت قادرة على تحليل قواعد بيانات هائلة لرصد الأنماط غير الاعتيادية، فيما توفر تقنية الـ «بلوك تشين» دفترًا لا مركزيا لا يمكن تعديله، يُسجّل الملكية بطريقة شفافة وآمنة.

وتُستخدم العقود الذكية لأتمتة العمليات المالية والتحقق من هوية المستفيد دون تأخير أو تدخُّل بشري، مما يقلل فرص التلاعب.

المؤسسات المالية... خط الدفاع الأول

تؤدي المؤسسات المالية دورا محوريا في الكشف عن المستفيدين الفعليين من خلال أنظمة «اعرف عميلك»، وإجراءات العناية الواجبة، والإبلاغ عن المعاملات المشبوهة.

ويُنتظر منها ألّا تكتفي بالامتثال للنظم، بل أن تطوّر أنظمة مراقبة استباقية تعتمد على تحليل المخاطر، خصوصا في الحالات التي تنطوي على أشخاص معرّضين سياسيًا، أو كيانات متعددة الجنسيات.

كما أن التزام هذه المؤسسات بإرسال تقارير دورية للجهات الرقابية يسهم في تكوين قاعدة بيانات تساعد على تتبّع الأنشطة المشبوهة وكشف المستفيدين الحقيقيين.

وفي ضوء ما تقدّم، يمكن استخلاص جملة من التوصيات التي من شأنها أن تسهم في تعزيز فعالية تحديد هوية المستفيد الفعلي ومكافحة الجرائم المالية العابرة للحدود.

أولى هذه التوصيات تتمثّل في ضرورة وضع تعريف موحد عالمي للمستفيد الفعلي، يشمل حالات السيطرة المباشرة وغير المباشرة، ويُعتمد من قبل الهيئات الدولية مثل مجموعة العمل المالي.

كما يُوصى بإلزام الشركات في جميع الدول بالإفصاح الكامل والدوري عن بيانات المستفيدين الفعليين، مع فرض عقوبات على الإخفاء أو التضليل.

كذلك، فإن إنشاء سجلات مركزية رقمية لتسجيل معلومات الملكية المستفيدة يُعد خطوة محورية، شريطة أن تكون هذه السجلات قابلة للربط والتبادل بين الجهات الرقابية محليًا ودوليًا.

ويجب ألّا تُغفل التوصية بتحديث البنية التحتية الرقمية للدول النامية، لضمان قدرتها على مجاراة المتطلبات الدولية في الشفافية والمساءلة.

وأخيرًا، فإن تعزيز التعاون بين القطاعين العام والخاص يظلّ من أهم ركائز النجاح، من خلال إرساء آليات فعالة لتبادل المعلومات ضمن إطار قانوني متين يوازن بين الأمن المالي وحماية الخصوصية، ويُمكّن المؤسسات المالية من أداء دورها الرقابي باحترافية وفاعلية.

وفي النهاية، لم يعُد تحديد المستفيد الفعلي ترفًا تنظيميًا أو مطلبًا شكليًا، بل هو جدار الدفاع الأول في الحرب على الجرائم المالية.

إن بناء نظام مالي أكثر شفافية وعدالة يبدأ من هذه النقطة، ونجاح العالم في منع غسل الأموال وتمويل الإرهاب واستعادة الأصول المنهوبة يرتبط بمدى قدرته على كشف من يقف فعليًا وراء الشركات والحسابات والصفقات.

وفي عصر العولمة، لا يمكن لأي دولة أن تحقق الأمن المالي وحدها. التعاون، والشفافية، والتكنولوجيا هي مثّلث الأمان للمستقبل.