اخبار الكويت
موقع كل يوم -جريدة القبس الإلكتروني
نشر بتاريخ: ٧ أيلول ٢٠٢٥
لطالما دعا الفلسطينيون إلى التضامن، أولاً من الدول العربية والعالم الإسلامي، واليوم من المجتمع الدولي الأوسع. لكن من الضروري التمييز بين تضامن ينطلق من الاستماع إلى الصوت الفلسطيني، ويُركّز على حقوقه، وبين تضامن يُعيد إنتاج صورة «المنقذ الغربي»، الذي يجعل من فلسطين مسرحاً لمغامرته الأخلاقية، لتُعاد صياغة المأساة في روايات تروي عطش المتفرج.
خذوا مثلاً أساطيل التضامن المتجهة إلى فلسطين المحتلة، لم يتمكن أيّ منها من كسر الحصار فعلاً، والمساعدات التي تحملها لا تكفي حتى نسبة ضئيلة من حاجة آلاف المحاصرين. ومع ذلك، تستمر هذه الرحلات لتُقدَّم كأحداث تاريخية، وكأن الفشل في المهمة إنجاز.
هذه المشاهد الإعلامية لم تُصمَّم للفلسطينيين، بل لجمهور عالمي يشاهد الإبادة عبر الشاشات. لا يمكن النظر إلى هذه الأساطيل بمعزل عن اقتصاد الإعلام. فهي تتحوّل سريعاً إلى محتوى إعلامي أكثر مما هي مبادرات فعلية، حيث تُقدَّم صور ومقاطع ومقابلات مع ركابها على أنها إنجازات كبرى، بينما يظل أثرها المادي على الأرض معدوماً.
التغطية الإعلامية لا تركّز على فاعلية المساعدات، بل على «الحدث» ذاته والشخصيات الحاضرة فيه، وكأن الهدف صناعة قصة قابلة للتسويق فحسب. وفي كثير من الأحيان تُستخدم هذه المشاهد كوسيلة لتعزيز مكانة منظمات غربية في المشهد السياسي والإعلامي. بهذه الطريقة، تتحوّل معاناة غزة إلى مادة بصرية مربحة، يُعاد تدويرها في الحملات والوثائقيات، ليبقى الفلسطيني غائباً عن مركز الرواية، وموجوداً فقط كخلفية مأساوية تُضفي المصداقية على البطولة الغربية.
الأدهى أن هذه الأساطيل لم تخلُ من الاستغلال والفضائح. فقد كُشف أخيرًا أن أحد ركاب «أسطول حنظلة»، ويدعى جيكوب بيرجر، ممثلٌ إسرائيليٌّ متهمٌ بالتحرش بناشطات فلسطينيات في الولايات المتحدة، ومع ذلك، وُضع على متن أسطول يُقال إن مهمته كسر الحصار.
فإذا كانت السفن تحمل إسرائيليين يستغلون المأساة لجيوبهم الشخصية ومنظوماتهم الصهيونية، فهل يمكن اعتبارها فعلًا لأجل فلسطين؟
الإعلام الغربي يُعزز «بطولة» النشطاء، وإن كانوا من الكيان نفسه، حينما يوجّه التركيز على غزة إلى الأساطيل. امرأة بيضاء على متن سفينة تحت راية السلام تصبح محور الحدث، بينما يُهمَّش ملايين المحاصرين.
هذا ليس تضامنًا بقدر ما هو إعادة إنتاج لعقود من الاستشراق، كما كتب إدوارد سعيد رحمه الله. الغضب العام لا يكتسب أهميته إلا حين تُمس الأجساد البيضاء. ومثال الأمريكية اليهودية ريتشيل كوري عام ٢٠٠٣ شاهد على ذلك، فقد هزّ مقتلها العالم، لا لأن تضحيتها فاقت تضحيات آلاف النساء الفلسطينيات، بل لأنها أمريكية.
في المقابل، هناك تضامن مختلف قلّما يُذكر. فدولة مثل الكويت ترسل بانتظام أطباء إلى غزة، يعملون في مستشفيات وسط القصف دون أن تتحول تضحياتهم إلى عناوين إخبارية أو أفلام عن أبطال خارقين، هؤلاء لا يبحثون عن عرفان، فبوصلة عملهم واضحة، ومُثبِّتها في قلوبهم الله تعالى.
النية وحدها لا تكفي في العمل الإنساني، إذ لطالما تحولت النوايا الحسنة إلى بوابة للتطبيع، وبينما يُقاس الداعم أو الناشط الغربي بحسن نيّته، يُحاسَب الفلسطيني على رد فعله تحت القصف والتجويع والإبادة. ما تحتاجه فلسطين ليس عروضًا إعلامية، بل تحتاج اعترافًا بحق الفلسطيني في رواية نضاله من دون وسطاء غربيين يسرقون صوته، لتسليط الضوء على بطولة منظوماتهم المتصلة بالكيان الصهيوني ذاته.
المسألة ليست في رفض صور الدعم الجديدة، بل في كشف آثار التضامن الشكلي، الذي يستعمر الفلسطيني رمزيًا، ويمنع قصته من الظهور كاملة، بينما يبقى الكيان الصهيوني المستفيد الوحيد، الذي يرسّخ حصاره وهيمنته يومًا بعد يوم، ويصوّر كذبة أن من ضمنه إسرائيليين يريدون الحرية لفلسطين.