اخبار الكويت
موقع كل يوم -جريدة القبس الإلكتروني
نشر بتاريخ: ٢٩ حزيران ٢٠٢٥
عندما انتُخب ظهران ممداني، أول عمدة مسلم في نيويورك، استُقبل كرمز للتعددية والتقدم. ادّعى تأييده للقضية الفلسطينية، لكن سرعان ما بدأت الأسئلة تُطرح: هل هو فعلًا مع فلسطين، أم مع الرواية الأمريكية المغلّفة بشعارات الحرية والعدالة؟
كان من الواضح منذ البداية أن ممداني جاء من قلب المؤسسة الليبرالية الأمريكية، وقد حظي بدعم التيارات النسوية البيضاء والليبراليين المطبّعين، ممن لا يزال ولاؤهم الحقيقي للمنظومة الاستعمارية الأمريكية، حتى وإن ارتدوا قناع «التقدم والتحضر». هؤلاء، سواء كانوا يساريين أم يمينيين، يبقون أمريكيين أولًا، وأوفياء لراحة الاستعمار حتى لو كانت قائمة على هتك حقوق الشعوب الأصلية.
على مدى عامين، شاهد العالم مجازر غزة تُعرض على الشاشات لحظة بلحظة: دمار وتجويع وقتل يقشعر منه البدن. ومع ذلك، دعم الكثير من سكان نيويورك سياسيًا ليبراليًا يدّعي تأييد الفلسطينيين، لكنه يُروّج لما يُسمى «التعايش» مع كيانٍ لا يزال يفتك بشعبهم.
ليس هناك ما هو تحرري أو ثوري في الاحتفاء بشخص يُثبت «حق إسرائيل في الوجود»، يُدين انتفاضة طوفان الأقصى في السابع من أكتوبر، يتعاون مع شرطة نيويورك المدرّبة من قبل جيش الاحتلال ذاته، ويحظى بدعم من منظمات مرتبطة باللوبيات الصهيونية مثل «الأصوات اليهودية للسلام»، ودعم السياسيين أمثال أليكساندريا كورتيس التي وقّعت على قرار ربط معاداة الصهوينية بمعاداة السامية. ومع ذلك، يُقدَّم كأنه نموذج للخلاص والتقدم والحرية لفلسطين.
لكن: خلاص لمن؟ للفلسطينيين الذين لا يزالون يقاتلون من أجل حقهم في التحرير؟ أم للمواطن الأمريكي الذي يبحث عن مخرج آمن من عبء التظاهر، ليتصالح مع ضميره ويواصل تمويل الاحتلال دون إحساس بالذنب؟
وحين تُوجَّه الانتقادات لممداني، تُطلق الاتهامات بالانقسام والفتنة. ولكن عن أي انقسام نتحدث؟ إن كان بين من يسعى لتحرير حقيقي، وبين من يجمّل وجه الاستعمار، فليكن هذا الانقسام محمودًا. وإن كان بين الفلسطينيين الذين يطالبون بالعدالة، وأمريكيين لا يطيقون سوى روايات منمّقة تناسب ذائقة الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي، فمرحبًا بهذا الانقسام أيضًا.
المسألة ليست مجرد خلاف في الأسلوب، بل هي اختلاف جذري في الرؤية: بين من يرى أن الصهيونية مشروع استعماري يجب تفكيكه وازالته من المنطقة، ومن يظن أن بالإمكان التفاهم معها ضمن قواعد «اللعبة الأمريكية».
ظهران ممداني ليس رمزًا للمقاومة. بل هو جزء من منظومة تسعى لتفريغ الخطاب التحرري من مضمونه. هو نموذج مصمم بعناية ليبدو تقدمياً، لكنه يعمل ضمن حدود الإمبراطورية الأمريكية، لا خارجها. إنه صوت ناعم، لكنه يخدم القمع ذاته.
أما من يرفضون التصفيق لهذا العرض السياسي؟ فهم إما يُهاجَمون، وإما يُقصَون، وإما يُلغَون. فالإعلام الأمريكي بات يستخدم سياسات الهوية لا كأداة تحرر، بل كوسيلة لضبط الخطاب العام وترويض الأصوات الناقدة. كيف يمكن انتقاد سياسي مسلم «وسيم» شاب دون أن يُتّهم الناقد بأنه «يميني» أو معادٍ للأقليات والمسلمين؟
وهكذا، يتحول النضال الفلسطيني، مثل قضايا الشعوب الأصلية في أمريكا، إلى رموز بصرية قابلة للاستهلاك: بطيخة، منشور، مهرجان، مظاهرة بالتعاون مع الشرطة الأمريكية، سياسي مسلم مطبع. لكنها تظل بعيدة كل البعد عن التحرر الحقيقي ومطالب فلسطين. إنها زينة للشكليات، لا دعوة لإنهاء الاستعمار.
لكن هذا العرض لن يستمر إلى الأبد.
بدأت الأقنعة تسقط، وظهر في الصفوف من يروّجون للتطبيع تحت شعارات ناعمة. وحتى لو حاولت أمريكا فرض روايتها وتسويق فلسطين عبر رموز استهلاكية وسياسيين ناعمين، تبقى فلسطين عصيّة على الاختزال، غير قابلة للتدجين أو الاستهلاك.
فلسطين، ببساطة، لا تحتاج إلى رموز من ورق، بل إلى من يحمل قضاياها بصدق دون أن يبيعها في أسواق الإمبراطورية.
هذا العرض المسرحي المدبَّر لن يصمد طويلًا، إذ بدأ بعض الأمريكيون أخيرًا يدركون أن أولئك الذين تظاهروا معهم طوال الشهور الماضية لم يكونوا بالضرورة يحتجّون على الشيء نفسه. لقد بدأت تظهر أخيرًا تلك اللحظة التي تُفتح فيها نقاشات حقيقية حول معنى «الحرية لفلسطين»: هل تعني دولة إلى جانب المستعمِر؟ أم تعني تفكيك الكيان وإقامة دولة واحدة عادلة على كامل الأرض؟ بدأت العيون تُفتح على حقيقة أن بين صفوفهم مروّجين للتطبيع وخونة بأقنعة تدعي الحرية.
ومهما حاولت أمريكا أن تحاصر فلسطين داخل خطاب دخيل قابل للتسويق، وأن تُحكم سيطرتها على سرديتها من خلال الرموز، والسياسيين، والمهرجانات، تبقى فلسطين عصية على الترويض، وخارج كل الصناديق.
فلسطين لا تُختزل، ولا تُؤطر، ولا تُستهلك، فهي مستمرة، رغمهم.
طارق الخضري