اخبار العراق
موقع كل يوم -وكالة الانباء العراقية
نشر بتاريخ: ٢٠ أيار ٢٠٢٥
بغداد- واع - آية منصور
في خطوة تعكس تطور الحراك السينمائي العراقي، حضر العراق بثقل لافت في الدورة الـ78 من مهرجان 'كان' السينمائي الدولي، عبر ثلاث مشاركات متنوّعة تُمثّل ماضيه وحاضره السينمائي، وتبرز اهتمام الجهات الرسمية بتعزيز حضور العراق على خارطة السينما العالمية. ليصلك المزيد من الأخبار اشترك بقناتنا على التليكرام ضمن قسم 'كان كلاسيك'، سُجّلت سابقة تاريخية باختيار الفيلم العراقي 'سعيد أفندي' (1956) للمخرج كاميران حسني، بعد ترميمه بدقة 4K على يد المعهد الوطني السمعي البصري الفرنسي. يُعد هذا الاختيار الأول من نوعه لعمل سينمائي عراقي في هذا القسم المرموق، ويأتي ضمن مشروع 'سينماتك العراق' الهادف إلى صون الأرشيف السينمائي الوطني وإحيائه.
يُعدّ فيلم 'سعيد أفندي' أحد أبرز أعمال الواقعية الاجتماعية في تاريخ السينما العراقية، وقد استند إلى قصة 'الشجار' للكاتب إدموند صبري، ليقدّم معالجة سينمائية بصرية لحكاية 'المعلم سعيد' الذي يُجبر على مغادرة منزله في بغداد، فينتقل مع أسرته إلى حي شعبي تتقاطع فيه الأقدار، ويواجه صراعًا داخليًا بين التمسك بقيمه والتأقلم مع محيط اجتماعي مضطرب.
بواقعيته الصادمة ونبرته الإنسانية العميقة، شكّل الفيلم نقطة تحول مفصلية في مسار السينما العراقية، متحررًا من النزعة التجارية التي سيطرت على إنتاجات الأربعينيات، ومؤسسًا لمرحلة جديدة تضع الإنسان وهمومه في صلب السرد.
ولا يحمل عرض 'سعيد أفندي' في قسم 'كان كلاسيك' بعد أكثر من ستة عقود على إنتاجه (1956) قيمة فنية فقط، بل يمثل لحظة استعادة لهوية بصرية كادت تتلاشى وسط الحروب والحصار. فبعد سنوات طويلة من الانقطاع القسري منذ التسعينيات، تعود السينما العراقية إلى المنصات العالمية، لا لتُكرَّم فحسب، بل لتروي حكاياتها التي لم تُروَ، بأدوات الحاضر وذاكرة الماضي.
العمل الذي جرى ترميمه بدقة 4K ضمن مشروع 'سينماتك العراق'، شارك في بطولته نخبة من نجوم الزمن الذهبي للسينما والمسرح العراقي، من بينهم يوسف العاني، جعفر السعدي، زينب حسني، عبد الواحد طه ويعقوب الأمين. وقد حاز الفيلم وقتها ترحيبًا جماهيريًا ونقديًا واسعًا، ومثّل العراق في عدد من المحافل الدولية، من بينها مهرجان موسكو السينمائي العام 1959.
أما الحاضر العراقي فتمثّل في الفيلم الروائي الطويل 'كعكة الرئيس' (بعنوانه الأصلي 'مملكة القصب') للمخرج حسن هادي، والذي نافس ضمن تظاهرة 'أسبوع النقاد'. الفيلم يتناول قصة لميعة، الشابة العراقية التي تُوكل إليها مهمة إعداد كعكة عيد ميلاد للطاغية صدام حسين خلال فترة الحصار في تسعينيات القرن الماضي، في معالجة درامية تعكس الضغوط السياسية والاجتماعية التي أثقلت كاهل المواطنين آنذاك وسط رفاهية يعيشها المقبور وعائلته.
ولم تقتصر المشاركة العراقية على العروض الفنية فقط، بل امتدت إلى الفضاء المهني لسوق 'كان' الدولية، حيث أُقيم ولأول مرة 'الجناح العراقي' ضمن مبادرة دعم السينما العراقية من قبل رئيس الوزراء. ويأتي الجناح بإشراف وزارة الثقافة والسياحة والآثار وبالشراكة مع نقابة الفنانين العراقيين. وقد وفر هذا الجناح مساحة للقاء صُنّاع السينما العراقيين مع نظرائهم من مختلف أنحاء العالم.
وتدور أحداث فيلم 'مملكة القصب' في أوائل تسعينيات القرن الماضي، خلال ذروة الحصار الاقتصادي الذي فُرض على العراق. وسط هذا الخراب اليومي، تكافح الطفلة لميعة وجدتها للبقاء على قيد الحياة في مزرعة قصب تقع في جنوب البلاد.
حين تُكلّف لميعة بإعداد كعكة عيد ميلاد للطاغية صدام حسين، تنطلق برفقة جدتها إلى المدينة، حاملة معها ديكها وما تبقّى لهما من ممتلكات لبيعها، في رحلة عبثية لجمع مكونات باهظة الثمن. خلال ذلك، يعرّي الفيلم الواقع الاجتماعي والسياسي في العراق التسعيني، كاشفًا عن قسوة الحياة اليومية وعمق الفساد الذي نخر مؤسسات الدولة.
صُوّر الفيلم بالكامل في العراق، ويقدم مشاهد آسرة من الأهوار الجنوبية، تلك المسطحات المائية القديمة التي تُعد مهدًا لحضارات ما بين النهرين، والمُدرجة على قائمة اليونسكو للتراث العالمي منذ عام 2016. لكن هذا الجمال ليس محايدًا؛ فالأهوار نفسها كانت هدفًا لحملة تجفيف ممنهجة قادها صدام حسين في التسعينيات لإخراج من يعارض سلطة البعث الصدامي المختبئين بين القصب.
بعد سقوط الطاغية، أُعيد فتح المياه، ما سمح بعودة الحياة تدريجيًا إلى المنطقة، وقد اختار المخرج حسن هادي هذه الخلفية بعناية، ليقول: 'الأهوار بقيت، أما صدام فرحل.'
ومن أجل استحضار العراق كما كان، أولى المخرج وطاقمه أهمية قصوى للتفاصيل: استعانوا بملابس أصلية قديمة، وطلبوا من حلاق محلي قصّ شعر الممثلين الثانويين وشواربهم بما يتناسب مع الحقبة، بل حتى صوّروا أحد المشاهد داخل مطعم صغير يُقال إن صدام كان يتردد عليه.
ورغم اختلاف التوجهات والأساليب بين الفيلمين، إلا أن حضورهما المتوازي في 'كان' يعكس تحوّل السينما العراقية من حالة التهميش الطويل بسبب الحروب إلى البدء باستعادة دورها في المشهد الثقافي العالمي، مدفوعة بزخم رسمي يتجه نحو الاستثمار في الفنون كوسيلة لتوثيق الذاكرة والانفتاح على العالم.