اخبار مصر
موقع كل يوم -بي بي سي عربي
نشر بتاريخ: ١٩ أيلول ٢٠٢٥
'نعمل على إيقاف الميكروب خوفاً من انتقاله للعين الأخرى أو وصوله إلى المخ مسبباً الوفاة'.
بهذه الكلمات المقتضبة، لخص طبيب في مستشفى خاص في مصر مأساة عشرات المرضى الذين وجدوا أنفسهم فجأة في معركة لم تكن في الحسبان، عدوى بكتيرية خطرة داخل غرفة عمليات، أدت إلى مضاعفات كارثية وصلت إلى فقدان البصر لبعضهم، ووضعت حياة آخرين على المحك.
بدأت معاناة علاء الدين الفقي، وهو أحد المرضى المتضررين، حينما توجه لمستشفى 6 أكتوبر للتأمين الصحي بمحافظة الجيزة غرب القاهرة، في شهر أغسطس آب الماضي، لإجراء عملية بسيطة لإزالة المياه البيضاء من عينه اليمنى، وهي جراحة لا تستغرق سوى دقائق معدودة، ولكنها انتهت في أروقة مستشفيات خاصة متفرقة، مع تحقيقات وزارية، وقسم رمد مغلق، وعشرات العائلات التي تبدل حالها من أمل الشفاء إلى صدمة الكارثة.
بداية الرحلة: عملية لا تستغرق 'ثلث الساعة'
يروي علاء الدين، الرجل السبعيني الذي قضى حياته باحثاً في معهد البحوث الزراعية، في مقابلة مع بي بي سي عربي، ما حدث له بصوت متعب: 'فحص طبيب عيني اليمنى وقال إن بها مياه بيضاء تحتاج لإزالتها، حددوا لي موعداً للعملية يوم 26 أغسطس آب، واستغرقت حوالي ثلث ساعة، وقالوا لي إنها نجحت'.
عاد علاء الدين إلى منزله على أمل أن يرى بعينه بشكل أوضح، لكن بعد يومين فقط، بدأ الكابوس.. وجد علاء احمرارا في عينه اليمنى وبدأ جفنها ينغلق.
الأكثر قراءة نهاية
بعد أقل من أسبوع من العملية، ذهب علاء الدين مرة أخرى إلى قسم الرمد بالمستشفى لمقابلة الاستشاري الذي طلب منه بعد الفحص الانتظار بالخارج، وبعد انتظاره ساعات طويلة، اكتشف علاء الدين أنه لم يكن الوحيد، وإن عشرات في مثل حالته تم تحويلهم إلى مركز خاص لعلاج العيون، لإجراء عملية أخرى.
يقول علاء الدين إن الأطباء في المستشفى لم يخبروهم صراحة بوجود مشكلة أو تلوث بفيروس في الجهاز الذي أجرى لهم عملية المياه البيضاء، لكنهم أعطوهم تقريراً مكتوباً يفيد بضرورة إجراء عملية أخرى لحقن العين المصابة بالسيليكون، وهو ما أدركوا من خلاله عدم نجاح العملية.
تابعوا التغطية الشاملة من بي بي سي نيوز عربي
اضغط هنا
يستحق الانتباه نهاية
في ذلك الوقت، كانت هبة أحمد، وهي ابنة محصل تذاكر في هيئة النقل العام في القاهرة، ترافق والدها. تقول بحسرة لبي بي سي عربي: 'في ثالث استشارة بعد العملية، طلبوا من أبي إجراء عملية ثانية لإن هناك التهابات حادة في عينه، صُعقت عندما علمت بذلك وأدركت فشل العملية الأولى'.
بدأت هبة في التعبير عن غضبها مما حدث في المستشفى، حيث تقول لبي بي سي عربي: 'طلبت تحويل والدي إلى مستشفى خاص، وبالفعل وافقوا على ذلك. أثناء انتظار أوراق التحويل، اكتشفت أن هناك حالات أخرى تعاني من نفس المشكلة، بعضها يعود إلى بداية شهر أغسطس/ آب الماضي، ومن بينهم من تعرضوا لتفريغ العين أو فقدان البصر. أدركت حينها أن المشكلة ليست مقتصرة على والدي فقط'.
بعد تأخر إصدار التحويل، بحثت هبة عن مدير المستشفى، وبدأت في الصراخ والتعبير عن استيائها، مهددة بتقديم بلاغ. تضيف هبة أن خوفها تفاقم حالة أبيها دفع إدارة المستشفى إلى الإسراع في إجراءات تحويل أبيها لمستشفى خاص.
قدمت هبة شكوى إلى وزارة الصحة، حيث تواصل معها طبيب من هناك لمتابعة حالة والدها، وعلمت أن هناك عددًا من المتضررين قدموا بلاغات في النيابة العامة. تتواصل هبة مع أكثر من 20 حالة أخرى، من بينهم خمس حالات تم تفريغ أعينهم في مستشفى القصر العيني، بحسب قولها.
التشخيص الصادم: 'فيروس يهدد بالوصول إلى المخ'
في المستشفى الخاص الذي تم تحويل المرضى إليه، جاء التشخيص كالصاعقة. لم تكن إصاباتهم مجرد التهابات، بل فيروس خطير قد يسبب تآكل في العين الثانية، وقد يصل إلى المخ ويسبب الوفاة.
'هنا لم يعد هدف المرضى استعادة البصر في العين المصابة، بل النجاة من العدوى ومنع انتقالها إلى العين الأخرى، من خلال عملية ثانية خضع لها علاء الدين وعشرات غيره في المستشفى الخاص'.
مع تفجر الأزمة، تحركت وزارة الصحة. تؤكد هبة تلقيها اتصالًا من مكتب وزير الصحة لمتابعة حالة والدها.
ويقول علاء الدين إن مكتب الوزير تواصل معه أيضاً وأبلغه بإقالة مدير مستشفى 6 أكتوبر تشرين الأول، وإغلاق قسم الرمد، وإحالة الأطباء للتحقيق.
لكن بينما تدور عجلة التحقيقات ببطء، تدور عجلة معاناة المرضى بسرعة. تحملت الأسر تكاليفاً باهظة لم تكن في الحسبان. يقول علاء الدين: 'كلفتنا التحاليل والأشعة والأدوية حتى الآن ما يعادل 40 دولاراً كان من المفترض أن يتحملها نظام التأمين الصحي التابع للوزارة وهذا لم يحدث، رغم أن مستشفى حكومي هو المتسبب في إصابتنا'.
يتفق هبة وعلاء الدين على أن متابعة الحالات المصابة في المستشفى الخاص تتم مجانًا، لكن التحاليل والأشعة الأولية كانت تكاليفها على نفقتهم.
من ضعف الرؤية إلى فقدان كامل للعين
علاء الدين ووالد هبة كانوا أفضل حظاً من السيدة شادية والدة محمد التي تمت إزالة عينها اليسرى.
أجريت العملية لوالدة محمد البالغة من العمر 57 عامًا، في الأول من سبتمبر أيلول الجاري، لكن الأمور سرعان ما اتخذت منحىً خطيراً.
يحكي محمد ل بي بي سي عربي 'في اليوم التالي للعملية، بدأ يظهر تورم والتهاب حاد في عين أمي اليسرى، وهو أمر غير طبيعي على الإطلاق. عدنا بها إلى المستشفى، وهناك بدأ مسلسل التضليل، فبمجرد إجراء أشعة السونار، تأكد الطبيب من وجود فيروس، ورغم ذلك، أدخلها في نفس اليوم لعملية حقن أخرى في نفس المستشفى الذي يحتمل أن يكون مصدر العدوى'.
استمرت حالة شادية في التدهور على مدى ثلاثة أيام داخل المستشفى، وسط تهرب من الأطباء وإجابات غامضة، بحسب ابنها محمد الذي يضيف 'كانوا يضللوننا، ويقولون إنها مجرد التهابات حادة وستتحسن بالمضادات الحيوية، بينما كانت عينها ووجهها يتورمان بشكل مريع. عندما طالبنا بنقلها على حسابنا الخاص، حاولوا إخراجها بتقرير طبي مزور يفيد بأنها تعاني من تلوث هوائي وأن حالتها مستقرة. بعد مشادات ومشاجرات، اعترفوا بالحقيقة المرة في التقرير الرسمي لحالة والدتي'.
يضيف محمد بأسى: 'كان التقرير صدمة للعائلة، حيث كشف عن إصابة أمي بميكروب خطير من داخل غرفة العمليات، وكانت الإجراء المطلوب في ورقة تحويل أمي إلى مستشفى القصر العيني هي تفريغ العين اليسرى، تقدمت ببلاغ لقسم الشرطة ضد القائمين على المستشفى، وهناك اكتشفت أن أمي واحدة من بين 28 حالة أخرى في نفس الأسبوع'.
وزارة الصحة تتدخل: لجان تحقيق والأهالي يطالبون بالعدالة
مع تفجر الأزمة، تحركت وزارة الصحة المصرية بشكل عاجل، حيث كشف الدكتور حسام عبد الغفار، المتحدث باسم الوزارة في اتصال مع بي بي سي عربي، أنه فور ورود معلومات عن تضرر عدد من المرضى بعد إجرائهم عمليات لإزالة المياه البيضاء في مستشفى 6 أكتوبر للتأمين الصحي، وجه وزير الصحة والسكان الدكتور خالد عبد الغفار بتشكيل أربع لجان متخصصة.
وأوضح المتحدث باسم وزارة الصحة لبي بي سي عربي أن اللجنة الأولى ضمت أساتذة في طب وجراحة العيون لتقديم الدعم الطبي للمرضى المتضررين ومراجعة الإجراءات الفنية والإكلينيكية التي تمت أثناء التدخلات الجراحية. أما اللجنة الثانية فكانت من المتخصصين في مكافحة العدوى وعلوم الجراثيم، للتأكد من سلامة الإجراءات المتبعة أثناء وقبل الجراحات.
كما شكلت وزارة الصحة بحسب متحدثها لجنة فنية وإدارية لمراجعة إجراءات تشغيل الجهاز المتسبب في المشكلة، ولجنة أخرى لفحص الأجهزة المستخدمة في العمليات.
وأشار المتحدث باسم وزارة الصحة المصرية حسام عبد الغفار في تصريحاته ل بي بي سي عربي، إلى أن تقارير اللجان أكدت وجود تقصير في تطبيق معايير مكافحة العدوى خلال التدخلات الجراحية، وهو ما أدى إلى إصابة عدد من المرضى بالتهابات بكتيرية في مقلة العين، حيث يضيف: ' للأسف الشديد، في بعض الحالات اضطر الأطباء إلى إجراء تفريغ لمقلة العين، وهو ما يعني فقدان البصر نهائيًا، بينما تمكنا في حالات أخرى من السيطرة على العدوى بالمضادات الحيوية والإجراءات غير التداخلية'.
وعن أعداد المصابين، أكد عبد الغفار، أن إجمالي من أصيبوا بالعدوى بلغ 41 مريضًا، بينهم خمس حالات فقط خضعت لعملية تفريغ لمقلة العين.
ويوضح عبد الغفار أن وزارة الصحة تعاملت مع الأزمة عبر ثلاثة محاور رئيسية: أولها تقديم الدعم الطبي والنفسي للمرضى، وتوفير أجزاء تعويضية للحالات التي خضعت لتفريغ مقلة العين، وثانيها المراجعة الشاملة لإجراءات مكافحة العدوى في المستشفى محل الواقعة وبقية المستشفيات لضمان عدم تكرارها، أما المحور الثالث فتمثل في محاسبة كل من قصّر في حق المرضى وتحويل الملف بكامله إلى النائب العام.
وفيما يتعلق بالعقوبات، أوضح المتحدث باسم وزارة الصحة لبي بي سي عربي أن الإجراء الأشد هو تحويل الواقعة إلى قضية جنائية، وليس مجرد خطأ إداري يحول إلى نقابة الأطباء، مشددًا على أن أقصى العقوبات القانونية ستطبق على المتورطين، مضيفاً أن وزير الصحة تواصل بشكل مباشر مع المرضى الخمسة الذين خضعوا للتفريغ ويتابع حالتهم باستمرار، سواء من خلال اللقاءات الشخصية أو الاتصالات الهاتفية.
وبينما تستمر التحقيقات، ناشد الأهالي وزير الصحة بتحمل تكاليف العلاج وصرف تعويضات مناسبة لهم جراء ما لحق بهم من ضرر، وهو ما يرى المتحدث الرسمي باسم الوزارة أنه من المبكر الحديث عنه، قائلًا 'نحن أمام وضع طبي قيد التحقيق، ويجب انتظار قرارات جهات التحقيق قبل اتخاذ أي إجراءات لاحقة'.
يعيش علاء الدين حالياً حياة مختلفة تماماً.. الرجل الذي كان يقود سيارته ويقضي حوائج بيته، أصبح حبيس منزله. يقول لنا بأسى: 'تسليتي الوحيدة هي النوم.. أصلي وأنام، أشعر بتعب في جسمي كله واحتاج لمن يساعدني إذا خرجت من المنزل'.