أول "مسحراتية"  في مصر

على مدار 12 عاماً حتى الآن، تلقب السيدة المصرية دلال عبد القادر بـ'أول مسحراتية' في مصر. تمسك طبلتها، تدور في شوارع حي المعادي الهادئ في القاهرة، تنقر على طبلتها 'إصحى يا نايم وحّد الدايم، إصحى يا محمد إصحى يا مروان، إصحي يا بسملة'.

'إصحى يا نايم وحّد الدايم، رمضان كريم وقول نويت بكرة إن حييت'، كثيرون منّا سمعوا هذه العبارة، وعبارات أخرى يردّدها أناس يجولون بعد منتصف الليل الشوارع، في شهر رمضان، ويمسكون طبلة ينقرون عليه نقرات بسيطة؛ لإيقاظ الناس لتناول وجبة السحور، يطلق على من يقوم بهذه المهمة 'المسحراتي'.

تنتشر هذه المهنة في عدد من الدول العربية منها مصر والمغرب، ويُعرف صاحبها بـ'نفار'، وفي فلسطين أيضاً، لكنّ لمصر طابعاً خاصاً بها، ربما تكون قد سمعت الشيخ سيد مكاوي ينشد من قبل: 'مسحراتي على طريقة منقراتي، ورا الحقيقة ستين دقيقة في كل ساعة ماهيش براعة لو فن دام في كل كلمة من الكلام، اصحى يا نايم وحّد الرزاق، رمضان كريم'.

تمسك طبلتها، تدور في شوارع حي المعادي الهادئ في القاهرة، تنقر على طبلتها 'إصحى يا نايم وحّد الدايم، إصحى يا محمد إصحى يا مروان، إصحي يا بسملة'، تنادي على أطفال الشارع الذين حينما يرونها يهللون ويتحلقون حولها ويطلون من النوافذ والبلكونات مطالبين إياها أن تنادي بأسمائهم أيضاً، تفعل ذلك كل يوم طوال شهر رمضان، وعلى مدار 12 عاماً حتى الآن، هي السيدة دلال عبد القادر التي تُلقب بـ'أول مسحراتية' في مصر.

في أحد الأيام، فوجئت دلال بوفاة شقيقها الذي كان مقرباً جداً من قلبها، والذي كان يعمل أيضاً 'مسحراتياً' في شهر رمضان، رغم جلوسه على كرسي متحرك. وفي شهر رمضان التالي بعد وفاته، لم تشعر دلال وأشقاؤها بالأجواء نفسها التي كانت تشعر بها في حياة شقيقها، فقررت إحياء عادة شقيقها الذي كان يسير بين الناس على كرسيه المتحرك، رغم صعوبة الأمر ليجول في الشوارع يوقظ الأطفال الذين ينتظرونه.

ويبدو أن دلال تعشق خوض المهن المقتصرة على الرجال، إذ تقول لـلميادين نت إن مهنتها الأصلية هي كيّ الملابس 'مكوجية'، وهي أيضاً مهنة حصرية للرجال في مصر، لم تشهد البلاد وجود نساء فيها إلا نادراً.

رغم ذلك، لم تتعرض دلال لمضايقات طوال عملها في هاتين المهنتين، وبحسب وصفها، 'في أكل العيش ما حدش يقدر يعترض، أنا بكوي وأنضف سجاد وأصبغ، مين اللي ممكن يعترض على أكل العيش؟!'، مضيفةً أنها لا تقوم بمهنة مُخلّة أو حرام، بل مهنة شريفة لأنها تعول أسرة وتربي أيتاماً.

تتذكر دلال أنها بدأت المهنة في عام 2012، في الذكرى السنوية لوفاة شقيقها، وبحسب وصفها، 'رمضان مكنش فيه روح، لأنه أخويا كان بيسحّر الناس، قولت وقتها إيه المشكلة أني أكمل وكان وقتها أخويا بيعمل المهنة دي بحُب، لأنه كان بيفرح الأطفال، وما كان يخرج به يومياً من مال يوزعه على أشقائه وأطفالهم وجيرانه'.

مر العديد من الأحداث على مصر خلال الأعوام الـ 12 الماضية بين وباء كورونا وظروف اقتصادية وسياسية غير مناسبة، لكن رغم ذلك، كانت تواصل عملها بحب وإخلاص، تجوب شوارع حيّها، المعادي، على قدميها تقول: 'كنت أجوب الشوارع وقت الحظر، وخلال الثورة وفي أثناء انتشار كورونا كنت أرتدي الكمامة'.

يبدو أن أول 'مسحراتية' في مصر لن تتوقف عن عملها، فمن بين دموعها قالت: 'الحالة اللي ممكن أبطل فيها أنزل أسحّر الناس هي إني أموت' مضيفة أنها لا تشعر أنها حية إلا حينما تجوب الشوارع في رمضان توقظ الناس للسحور، وبحد وصفها، فهي تشعر أنها ميتة طوال العام.

تضحك دلال عند السؤال عن عزمها إنشاء نقابة للـ'مسحراتية' في مصر قائلة: 'أنا هعمل نقابة لنفسي'.

كذلك تقوم بالإنشاد والغناء بأسلوب بسيط وليس احترافياً، ولا سيما عند وجود الأطفال حولها، والذين يطلبون أغاني رمضان المعروفة مثل 'سبحة رمضان لولي ومرجان' وأغنية سيد مكاوي.

صحيح أن دلال دخلت التاريخ، لكن الأمر لم يفدها مادياً ولا اجتماعياً، باستثناء أنها نالت شهرة واسعة بسبب عملها، وبات الجميع ينتظر قدومها خاصة الأطفال، أما مادياً فليس هناك عائد من هذه المهنة، شاكية مشقات المهنة ومتاعبها.

لم يتذكرها الكبار لكن تذكرها الأطفال، فحبهم لها هو ما تعدّه العائد الوحيد، ومن أحلى الأوقات التي تمر عليها هي حينما تكون بينهم ويطوفون حولها ويلعبون معها أو ينتظرونها على مقدمة الشارع، وفي أول رمضان الحالي، فاجأها الأطفال بشراء هدايا لها بمناسبة عيد الأم، وقتها لم تتمالك نفسها وغالبتها دموعها.

رغم أن دلال عبد القادر هي التي أطلقت الشرارة في مهنة 'المسحراتي' للنساء، فإنه حالياً بات هناك أكثر من سيدة يمارسن هذه المهنة، منهن أمل خليفة 'مسحراتية' منطقة المهندسين في القاهرة، والتي ورثت المهنة عن والدها، وفي العام الماضي، تناقلت وسائل التواصل الاجتماعي وجود شابة مسيحية مقيمة في مدينة دهب التي تبعد نحو 100 كم جنوب شرم الشيخ، تدعى كاتي ظريف تحيي فولكلور المهنة في هذه المدينة السياحية بارتدائها الجلباب وحملها الطبلة والعصا.

كذلك ظهرت سيدة أخرى تدعى 'فوفا' أو وفاء في مدينة بنها بمحافظة القليوبية تقوم بهذه المهنة، منذ جائحة كورونا،وتجوب الشوارع ليلاً مع زوجها الذي يقرع الطبلة، وهي تقوم بالنداء على أطفال الحي، فيما تعمل صباحاً في بيع الخضروات.

رغم انتشار المهنة في عدد من الدول العربية التي باتت تنسب أصول المهنة إليها، فإن الباحث والمؤرخ سامح الزهار أكد للميادين نت أن المهنة مصرية ولا يصح نسبها إلى أي جنسية أخرى، هذا ما تؤكده الوثائق التاريخية منها كتاب 'المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار' لتقي الدين المقريزي، و'النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة' لابن تغري بردي، و'بدائع الزهور في وقائع الدهور' لابن إياس.

وبحسب الزهار، فإن مهنة المسحراتي هي موروث ثقافي للمصريين في شهر رمضان الكريم، تطورت على مدى العصور الإسلامية، بدءاً من التنبيه لآذان الإمساك لعبد الله بن مكتوم إلى مهنة المسحراتي التي ظهرت بشكلها الحالي في عهد الخليفة المنتصر بالله وفي عهد عتبة بن إسحاق، والي مصر، فكان يقوم بنفسه بهذه المهمة وينادي قائلاً: 'عباد الله تسحروا فإن في السحور بركة'.

وفي العصر الفاطمي، أصدر الحاكم بأمر الله أوامر لجنوده بالمرور على المنازل، وقرع الأبواب لإيقاظ المسلمين للسحور، وبمرور الزمن قام بتخصيص رجل للقيام بهذه المهمة يمسك بيده عصا يدق بها أبواب البيوت منادياً: 'يا أهل الله قوموا تسحروا'.

وبحسب المؤرخ والباحث المصري، فإن هذه المهنة على مدار نحو 1000 عام لم تشهد وجود امرأة نهائياً تقوم بها، إلا مؤخراً حينما أصبحت هناك أكثر من سيدة تقوم بها.