اخبار مصر
موقع كل يوم -الرئيس نيوز
نشر بتاريخ: ٨ كانون الأول ٢٠٢٥
منذ اندلاع الحرب السودانية بين الجيش وقوات الدعم السريع، وجدت واشنطن نفسها أمام اختبار معقد، ليس فقط في إدارة الأزمة، بل في كيفية صياغة موقف موحد داخل مؤسساتها. وأشار تقرير صحيفة الإندبندنت البريطانية بوضوح إلى أن التباين بين مبعوث الرئيس الأمريكي دونالد ترامب إلى الشرق الأوسط مسعد بولس، ووزير الخارجية ماركو روبيو، لا يمثل مجرد اختلاف بيروقراطي داخل أروقة الإدارة الأمريكية، بل يعكس غياب رؤية استراتيجية واضحة أو على الأقل غياب القدرة على تنفيذها بصورة متسقة.
بولس بين الإدانة والتحول
قبل سقوط مدينة الفاشر في أكتوبر الماضي بيد قوات الدعم السريع، كان خطاب بولس يتسم بحدة في إدانة انتهاكات تلك القوات بقيادة محمد حمدان دقلو 'حميدتي'. لكن بعد هذا الحدث المفصلي، تغيرت لهجته بشكل لافت، إذ بدأ يتحدث عن مخاطر تقسيم السودان وتفتيته، وتراجعت حدة انتقاداته لجرائم الدعم السريع. هذا التحول أثار شكوكًا حول طبيعة التفاهمات السرية التي كانت تجري في واشنطن بين الجيش والدعم السريع، خاصة أن بولس ركز لاحقًا على 'الإسلاميين' داخل الجيش وعلى اتهامات باستخدام أسلحة كيماوية، ما بدا وكأنه محاولة لخلق توازن سردي يساوي بين الطرفين.
هدنة مثيرة للجدل
إصرار بولس على هدنة إنسانية فورية بعد سقوط الفاشر بدا إنسانيًا في ظاهره، لكنه عمليًا كان يعني تجميد الوضع الميداني لصالح قوات الدعم السريع التي حققت مكاسب كبيرة. هذا الموقف أثار قلق القيادة السودانية وحلفائها الإقليميين، الذين رأوا فيه محاولة لإضفاء شرعية على واقع جديد يفرض تقاسم السلطة بين الجيش والدعم السريع. تصريحات حميدتي لاحقًا عن خططه لتفكيك الجيش السوداني وإنشاء جيش جديد زادت من المخاوف، خاصة أن هذه اللغة لم تكن جزءًا من الأدبيات الدولية التي تتحدث عادة عن بناء جيش مهني ودمج المنشقين وفق معايير الأمم المتحدة.
روبيو: الحسم عبر الحلفاء
في المقابل، جاء موقف وزير الخارجية ماركو روبيو أكثر وضوحًا وحسمًا. بعد تواصل قائد الجيش السوداني عبد الفتاح البرهان مع ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، صدرت تصريحات قوية من روبيو عقب لقائه نظيره السعودي في كندا، أظهرت انفصالًا كاملًا عن مسار بولس. روبيو حمّل الدعم السريع مسؤولية مباشرة، وقدم خطابًا يعكس تنسيقًا أكبر مع الحلفاء الإقليميين، بخاصة السعودية ومصر، وهو ما بدا وكأنه مسار جديد للسياسة الأمريكية أكثر انسجامًا مع مصالح شركائها العرب.
تدخل ترامب المباشر
الأكثر دلالة كان تدخل الرئيس ترامب نفسه، الذي أعلن خلال زيارة ولي العهد السعودي لواشنطن أنه سيتولى الملف السوداني شخصيًا 'من أجل ولي العهد'، مستخدمًا نفس الصياغة التي استعملها سابقًا في الملف السوري استجابة لطلبات أردوغان وبن سلمان. هذا النمط من التدخل المباشر، المدفوع بالعلاقات الشخصية أكثر من البيروقراطية التقليدية، يعكس أسلوب ترمب المميز في السياسة الخارجية، لكنه يثير أيضًا تساؤلات حول دور مبعوثه الخاص ومدى التنسيق بين المسارات المختلفة داخل الإدارة.
وفي هذه الأجواء، رصدت الإندبندنت حملة إعلامية متصاعدة في الصحافة الأمريكية والإسرائيلية، مثل وول ستريت جورنال وتايمز أوف إسرائيل، تستهدف سمعة بعض داعمي قوات الدعم السريع، مسلطة الضوء على الانتهاكات الإنسانية المرتبطة بالمساندة الخارجية. هذا التوجه الإعلامي بدا متسقًا مع موقف روبيو أكثر منه مع خطاب بولس، ما يعكس تعدد الأصوات داخل واشنطن وتناقضها في إدارة ملف حرب السودان.
أزمة صنع القرار
كشفت تقارير إعلامية أمريكية عن امتعاض كبار مسؤولي وزارة الخارجية من أسلوب بولس، واصفين إياه بأنه 'لا يستشيرهم ولا يطلعهم على تحركاته'، وأن هناك 'تعتيمًا كاملًا' على نشاطاته. هذا الأسلوب الانفرادي يفسر جزءًا من الفوضى، لكنه لا يفسر لماذا سمح له بالاستمرار لفترة طويلة إذا كان فعلًا يتحرك خارج الإطار المؤسسي. تصريحات روبيو الأخيرة التي قال فيها إن 'ترمب لا يعتمد على من ينوب عنه في إيقاف الحروب'، جاءت لتؤكد أن مسار بولس انتهى فعليًا، وأن الإدارة تتجه نحو مسار جديد أكثر تنسيقًا مع الحلفاء الإقليميين.
وأكدت الإندبندنت أن ما نشهده اليوم في السياسة الأمريكية تجاه السودان ليس مجرد تناقضات، بل أزمة في صنع القرار والتنسيق داخل الإدارة. وأشارت إلى أن التباين الصارخ بين بولس وروبيو يعكس غياب رؤية استراتيجية واضحة، أو على الأقل غياب القدرة على تنفيذها بصورة متسقة. ومع دخول ترمب شخصيًا على خط الأزمة، يبدو أن واشنطن تتجه نحو مسار ثالث أكثر انسجامًا مع شركائها الإقليميين، وأكثر حسمًا في موقفها من قوات الدعم السريع. لكن يبقى السؤال: هل يأتي هذا التحول في الوقت المناسب لإنقاذ السودان من التفكك النهائي، أم أنه مجرد إعادة إنتاج لتناقضات جديدة ستطيل أمد الحرب والمعاناة الإنسانية؟


































