اخبار مصر
موقع كل يوم -الميادين
نشر بتاريخ: ٢٣ أيار ٢٠٢٥
'ممشى أهل مصر' لم يعد مجانياً.. لا مكان للفقراء على ضفاف النيل
كان كورنيش النيل متنفسًا للأسر الفقيرة مجانًا، خصوصًا في الأعياد والمناسبات أو للتنزه الأسبوعي. لكن بعد فرض الرسوم لزيارته اعتكفت فئة كبيرة عن ذلك لأن التكلفة تشكل عبئاً عليهم.
وقف محمود عبد المقصود، العامل في ورشة حدادة، على كوبري قصر النيل وسط القاهرة، يستنشق الهواء بعد يوم من الكدح في ورشته الصغيرة لتصليح السيارات. لكن بدت على وجهه علامات التعجب من التغيرات التي طرأت على المنطقة التي لم يزرها منذ ثلاث سنوات.
يلتفت عبد المقصود يمنة ويسرة باندهاش شديد مما يراه في مشروع 'ممشى أهل مصر'، الذي اقتطع جزءًا كبيرًا من طرح النهر بعد تهجير أصحاب العوامات النيلية السكنية، فهذا الممشى بُني ككتل خرسانية ومستطيلات زجاجية، وكشريط لامع يعانق النيل، بأضواء متلألئة ومقاعد نظيفة تضم متاجر ومطاعم فاخرة، لكن دخوله يتطلب مقابلًا ماديًا.
كان كورنيش النيل متنفسًا للأسر الفقيرة مجانًا، خصوصًا في الأعياد والمناسبات أو للتنزه الأسبوعي. وأُعلن عن هذا المشروع في آب/أغسطس 2019، بهدف زيادة نصيب الفرد من المسطحات الخضراء والمساحات المفتوحة، وفق بيانات رسمية. بعد افتتاحه عام 2022، بات كتلًا زجاجية تضم أكشاكًا ومطاعم سياحية، وهو أمر اعتبره البعض تمييزًا ضد محدودي الدخل، بينما تراه الحكومة ضرورة لاستدامته كوجهة حضارية.
الحكومة تبيع الهواء للمصريين
بالنسبة إلى عبد المقصود، كانت فسحة النيل ترويحًا للنفس لا تتطلب الكثير من المال، وهو عامل بسيط بأجر يومي. يقول لـلميادين نت: 'الحكومة تبيع الهواء للمصريين، حتى الكورنيش الذي كنت أعتبره نزهة أسبوعية لأسرتي بات رسم دخوله 25 جنيهًا (نصف دولار)، ما يعني دفع حوالى 150 جنيهًا (3 دولارات)'.
على دراجة بخارية متهالكة، يصطحب عبد المقصود زوجته وأطفاله الأربعة من حي إمبابة بالجيزة وصولًا إلى قلب القاهرة حيث الكورنيش، قاطعًا عشرات الكيلومترات بين السيارات، هذه الوسيلة، وفق حديثه 'تجنبه دفع أجرة مواصلات باتت باهظة في ظل ارتفاع أسعار المحروقات'.
الآن، يقف هذا الرجل الخمسيني وأسرته أعلى كوبري قصر النيل، يتناولون بعض المسليات البسيطة، بدون السير على الكورنيش كما اعتادوا، إذ 'مُنعوا بفعل الممشى من النزول إلى الشاطئ بعد إزالة السلالم القديمة'.
والممشى مسار موازٍ على ضفاف نهر النيل، مزوَّد بخدمات ومرافق متعددة، ويحتوي على أنشطة ترفيهية وثقافية، ومقاعد موزعة للجلوس. صُمم بمساحات خضراء واسعة تبلغ 3100 متر مربع، إضافة إلى مدرجات ومسرح يسع أكثر من ألف فرد. لكن، عقب افتتاحه في آذار/مارس 2022، لم يعد مساحة مجانية، إذ أُسندت إدارته إلى شركة 'كاونسل ماسترز' التي فرضت رسوم دخول.
لا مكان للفقراء على ضفاف النيل
بعد يوم شاق في العمل، يمر أحمد حسن، الشاب الثلاثيني، على جسر منطقة الساحل، الواصل بين غرب النيل وشرقه. يرمق النهر بعينيه ولا يسير على ضفافه بعدما صارت تلك النزهة تتطلب مبالغ ليست في استطاعته.
في زقاق ضيق بحي الزاوية الحمراء بالقاهرة، يسكن حسن، الذي يعمل حمّالًا في سوق للخضروات. يقول لـلميادين نت: 'قررت دخول الممشى ذات مرة بعد دفع ثمن التذكرة من أجري اليومي الشحيح. وقفت أمام البوابة، لكن النظرة المتعالية للداخلين إلى جلبابي جعلتني أشعر أنه لا مكان لي، فاسترددت التذكرة وعدت إلى رصيف الشارع'.
ويضيف: 'كانت ضفاف النيل ملكًا للجميع، واليوم ممشى أهل مصر لم يعد لأهل مصر، بل لمن يملكون ثمن المأكولات والمشروبات بالأسعار السياحية'.
وتوالت وتيرة الشكاوى مع غلبة الطابع التجاري على الكورنيش، وتحويله من متنفس عام إلى واجهة سياحية للقادرين، حتى بات الزوار يفضلون الجلوس على الرصيف الخارجي مع إحضار مشروباتهم من منازلهم، لأن الجزء السفلي من الممشى يضم خدمات استثمارية تفوق القدرات المالية للأسر الفقيرة والمتوسطة.
السيدة الستينية خديجة محمود، من حي الشرابية الشعبي في القاهرة، أرادت التنزه على كورنيش النيل هي وأحفادها، كما كانت تفعل دومًا بدون بوابات أو رسوم. عندما سمعت عن ممشى أهل مصر، قررت اصطحاب أحفادها للتنزه وزيارة الممشى.
حين علمت تلك السيدة أن سعر التذكرة 25 جنيهًا للشخص، ما يعني دفع حوالى 275 جنيهًا (5.5 دولارات) لدخولها وأحفادها السبعة وبناتها الثلاث، عادت للوقوف على الكورنيش القديم بعيدًا عن الممشى اللامع. تقول للميادين نت: 'النيل كان ببلاش، دلوقتى بقى للأغنياء بس'، وتضيف: 'مشروعات الحكومة الخدمية أو السكنية لا تراعي الغلابة'.
أما الشاب العشريني هادي رمضان، حين اصطحب خطيبته في نزهة نيلية بممشى أهل مصر، لم يجد مكانًا للجلوس سوى مقاعد المطاعم. قررا الجلوس، لكنه فوجئ بأن الأمر يتطلب حدًا أدنى من الطلبات بقيمة 850 جنيهًا للفرد، فشعر بالحرج.
اعتذر هادي واصطحب خطيبته إلى الرصيف خارج الممشى لينضم إلى عشرات الزوار الآخرين الذين يقفون قرب السور الحديدي، يتناولون ساندويتشات خفيفة معهم، ويكتفون بالنظر إلى النيل، وفق حديثه لـلميادين نت.
انتقاد برلماني ورد حكومي
طالت الانتقادات البرلمانية الممشى أيضًا، إذ تعتبره النائبة مها عبد الناصر، ابنة الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، لا يتماشى مع كونه متنفسًا لجميع المصريين بمختلف طبقاتهم. تضيف لـلميادين نت: 'سياسات الحكومة لا تراعي الحد الأدنى المطلوب للفقراء، وإتاحة الممشى لكل المصريين مجانًا'.
وتابعت عبد الناصر: 'النيل ملك للشعب المصري وليس حكرًا على فئة معينة، وتحويله إلى مكان مدفوع يناقض تلك الفكرة'.
من جانبها، بررت وزارة الإسكان المصرية فرض الرسوم بأنها لصيانة ورفع كفاءة الممشى ولاستدامته كوجهة حضارية.