الشيخ الأمير الذي يحبه شعبه

حين نشرتُ نعي رحيل الشيخ نواف الأحمد الصباح، أمير دولة الكويت الراحل رحمه الله، في صبيحة ذلك اليوم الحزين، تداخلت معي على 'إكس' (تويتر سابقاً) إحدى الأخوات من مثقفات المهجر، تسألني استفهاماً لا اعتراضاً: 'لماذا يرحل الزعماء الخيّرون سريعاً، أستاذ مهنا؟ ولماذا يبقى الآخرون على صدر أوجاع شعوبهم وأمتهم؟'.

لقد تزامنت وفاة الشيخ نواف مع حرب الإبادة التي تُشن على غزة، ولا يزال جحيم الهولوكوست قائماً، في أجساد الأطفال، عبر محارق النازيين الجدد في تل أبيب وفي الغرب الحداثي الإرهابي، وهذه المرة جاء العدوان بعد أن تأثرت البيئة العربية بالمشروع الضخم الذي تحدثنا عنه في مناسبات عديدة، لتطبيع الفكرة الصهيونية في الوطن العربي.

وقلنا حينها إن هناك فرقاً بين تطبيع الفكرة الصهيونية، والتطبيع الاقتصادي الذي رفضه العرب قديماً، فالفكرة الصهيونية الإبادية تم تأسيس منصات ممولة ضخمة لها، كمؤسسات فكرية أو حسابات في السوشيال ميديا، تشوه أبناء الشعب الفلسطيني، خاصةً الصامدين منهم وتروج لسلمية القوة الصهيونية ذاتها، لا الإنسان اليهودي خارج الكيان الوظيفي.

هذا المشروع تعرض لضربة قوية فضحته في مشهد غزة، لكنه عاد ليشتغل على مشروعه. وليست قضية خلافه مع المقاومة فهذه مخادعة، وإنما عداؤه مع أصل قضية فلسطين كوطن عربي مسلم محتل، فيضيق ممولو الصهيونية العربية بحضور وطن القدس والأقصى؛ لكونه يعرقل وظيفتهم مع المركزية الغربية.

ولذلك تسعى أنظمة التطبيع الصهيوني إلى أن تُشيطن فلسطين وأهلها وتروّج للكيان ومستوطنيه، الذي تَبرز عقيدته اليوم، ضمن النماذج الأبشع، التي يشهدها التاريخ الإنساني في الإبادة، ومع ذلك يروجون ببراءةٍ النموذج الاستيطاني الصهيوني، بل يزعمون له حقاً تاريخياً ضد أهل الأرض ويحاربون شعبها، وهذا كله لا علاقة له بأخطاء حماس ولا بتقديرات الحرب.

هنا نفهم لماذا شعر العرب والمسلمون بغصة، حين نزل نبأ رحيل الأمير الشيخ نواف الأحمد رحمه الله؛ لكون الساحة والفضاء العربي باتا مزدحمين بتيار الصهيونية العربية، وبترويج ثقافتها، رغم التعاطف الحاشد والضخم مع غزة، لكن للمشروع الصهيوني منصاته وإمكاناته الضخمة، أما الكويت فلقد ظلت تاريخياً في عهد المقاومة القومي، وفي عهدها الإسلامي، مع فلسطين، ومنذ التاريخ الأول لحراك الكويت المدني الحقوقي، ومنذ أجيال طلبتها في الجامعات العربية، وهي كذلك.

وظل الغوث الإنساني الكويتي يتدفق، رغم خطيئة الراحل ياسر عرفات ومن شاركه، في كارثة غزو الكويت 1990، لكن ظلت الكويت، بل عادت بقوة كمجتمع وحتى كدولة تَهبُّ من جديد لنصرة شعب فلسطين، وباتت منابر شبابها وفعالياتها وحتى بيانات حكومتها إضافة إلى خطاب مجلس الأمة، في اتجاه العدالة والنصرة المقدسة، وكان ذلك قديماً، لكنه ازدهر في عهد الشيخ نواف رحمه الله؛ لكونه أعاد مساحة الهامش الديمقراطي التاريخي للكويت، وأعلن في أول توليه بيان العفو وختم حياته قبل أن يعزله المرض، بقرار التجاوز والحرية الكبير للمعتقلين السياسيين، وللمنفيين.

انظر هنا كيف تتوافق مساحة الحكم، الذي يُبقي حق المشاركة الشعبية والحرية السياسية لوطنه ولأجياله، مع قضايا الأمة العادلة والواجبة للتضامن، ليس تدفقاً غوثياً ضخماً عرفت به الكويت فقط، لكنه مدد سياسي ومعنوي يشارك فيه مجتمعها في فضح أنصار العدو، وفي مدافعة القوة الإعلامية الضخمة التي تروّج للصهيونية العربية، ولذلك كانت لحظة حزن وألم؛ لكونها تقديراً كبيراً لمواقف الأمير الذي ظل يرعى هذه الروح ويعززها.

إن مفهوم مصطلح الشيخ له معنى قديم في التاريخ الاجتماعي للخليج العربي، وأمارات الساحل بالذات، وهناك مساحات رئيسية مفهومة في تقسيم مشيخات الخليج العربي، رتب لها الإنجليز وأضعف بُنيتهم الجماعية، لكن أيضاً هنا روح مكتسبة بحسب التجربة، بين الأمير الذي يحتضن شعبه بالحب، ويبقي لهم مساحة ويحنو عليهم، والدول الشمولية المركزية، أكانت جمهورية أم ملكية أم رئاسية، فالعبرة هنا بحضور روح التسامح، ومحبة الشعب، وهنا نفهم قول سيدنا النبي الأمين صلى الله عليه وسلم: 'خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم، وتصلون عليهم ويصلون عليكم، وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم، وتلعنونهم ويلعنونكم'.

العبرة هنا بحب الشعب دون ترهيب أو ترغيب، وفي الصورة الأخرى رعب الشعب بالترهيب، لذلك تراحم الكويتيون مع أميرهم، وغصّت شعوب بمستبديهم، في الدنيا تعرف الحقيقة في لحن القول وفي الأعين المحدقة بالقلق والخوف، وفي الآخرة يُجزى كل منهم على عمله.

اما اختيار الله للراحلين المحسنين وطول أعمار الطغاة، فهو في أجلهم المحدد، وفي حكمته التي من ضمنها ابتلاء الأمم بالمدافعة الحقوقية، وبالمصابرة والاحتساب مع الطغاة، مع تفعيل عقيدة الحرية والإصلاح، وفي يوم الدين تأتي صلوات الشعب لتشفع لأميره، رحم الله الشيخ نواف الأحمد الصباح، وخالص العزاء لكل الأسرة الأميرية والشعب الشقيق الحبيب.