منذ اندلاع الحرب في 15 أبريل 2023 بين القوات المسلحة السودانية و'قوات الدعم السريع'، والسودان يعيش كابوسا حقيقيا لم يشهد له مثيلا في تاريخه الحديث.

الحرب التي دخلت عامها الثالث خلفت وراءها دمارا شاملا وأزمة إنسانية غير مسبوقة، حيث أصبحت أكبر أزمة نزوح في العالم مع نزوح 14.3 مليون شخص، أي ما يمثل ثلث سكان السودان.

ولم تكن مجرد صراع عسكري عابر بل كانت زلزالا سياسيا واجتماعيا غير من طبيعة المعادلات في السودان بشكل جذري والعودة إلى ما قبل 15 أبريل 2023 يعد صعبا جدا.

وخلقت أيضا واقعا اجتماعيا جديدا يتميز بمستوى غير مسبوق من الاستقطاب والانقسام، حيث أصبح المجتمع السوداني منقسما بشكل حاد على أسس عرقية وإثنية وسياسية وهذا الانقسام ليس مجرد خلاف في الآراء بل هو شرخ عميق في النسيج الاجتماعي يحتاج إلى جهود جبارة لإصلاحه.

كما عقدت الأزمة الخريطة السياسية السودانية بشكل كبير مع ظهور تحالفات جديدة، وانقسام القوى السياسية التقليدية، وبروز فاعلين جدد، فيما أفرزت واقعا سياسيا معقدا يختلف جذريا عما كان عليه الوضع قبل الحرب.

التعقيد في الخريطة السياسية يجعل من الصعب تطبيق الحلول التقليدية أو العودة إلى الترتيبات السياسية السابقة وأي حل سياسي مستقبلي يجب أن يأخذ في الاعتبار هذا الواقع الجديد المعقد وأن يتعامل مع التحديات الجديدة التي فرضتها الحرب.

إن الأزمة السودانية معقدة ومتشابكة وتحتاج إلى حلول جذرية فالبحث عن حلول بسيطة لمشاكل معقدة أمر لا يقبل التبسيط، فالحرب في السودان ليست مجرد خلاف بين طرفين يمكن حله بجلسة تفاوض واحدة، بل هي أعمق من ذلك.

والدعوة إلى 'هزيمة الحرب' وليس مجرد إيقافها، هي دعوة عميقة ومهمة أو أنها ستنقلب إلى 'حرب الهزيمة'، حيث أن الخروج من عنق الزجاجة يتطلب جهدا جماعيا من كل القوى.

إلا أن متابعة ما يجري ميدانيا (عسكريا) والتطورات السياسية والخلافات والإنقسامات تشير إلى مسار معقد، حيث تواجه ​الحكومة السودانية​ الجديدة برئاسة الدكتور كامل إدريس عراقيل متواصلة بسبب تصاعد الخلافات بين الحركات المسلحة الموقعة على 'اتفاق جوبا للسلام' وقيادة الجيش، وسط تمسك الحركات بنسبة تمثيلها في السلطة استنادا إلى الاتفاق الموقع قبل خمس سنوات.

عين رئيس مجلس السيادة الانتقالي ​عبد الفتاح البرهان أواخر مايو 2025 كامل إدريس رئيسا للوزراء على أن يبدأ رسميا مهامه مطلع يونيو، إلا أن عملية تشكيل الحكومة الجديدة تصطدم بعقبة 'المحاصصة' وسط تصعيد سياسي وميداني في بورتسودان

الحركات المسلحة التي تقاتل إلى جانب الجيش في الحرب الحالية، ترفض التنازل عن مكتسباتها التي نص عليها اتفاق جوبا وعلى رأسها نسبة 25% من التمثيل في الحكومة، وهي النسبة التي جرى تطبيقها في الحكومة السابقة التي حلها إدريس ضمن أول قراراته في بداية شهر يونيو.

كما أن التوترات لا تقتصر على نسب التمثيل السياسي، بل امتدت لتشمل السيطرة على الموارد والوزارات السيادية، حيث أفادت مصادر لصحيفة 'الراكوبة' السودانية بوجود خلافات جديدة داخل دوائر السلطة ببورتسودان عقب ورود أنباء عن إعادة تعيين مبارك عبد الرحمن أردول مديرا عاما للشركة السودانية للموارد المعدنية، وهو ما اعترضت عليه 'حركة تحرير السودان' بقيادة مني أركو مناوي.

وذكرت المصادر في السياق، أن شمس الدين كباشي نائب قائد الجيش، عرض على أردول منصب وزير المعادن أو إعادة تعيينه على رأس الشركة، وهو ما أثار غضب مناوي في ظل صراع مستمر بين الحركات على حقائب وزارية حساسة أبرزها المالية والمعادن التي تعد مصادر رئيسية لتمويل الحرب المستمرة منذ ثلاث سنوات.

وفي المقابل، أبدى مني أركو مناوي مرونة أكبر وقبل بتقليص تمثيل حركته مقابل الاحتفاظ بحقيبة وزارية واحدة، غير أن تمسك 'العدل والمساواة' بكافة استحقاقات 'اتفاق جوبا' يعرقل جهود تشكيل الحكومة ويهدد بمزيد من التصعيد في بورتسودان في ظل انسداد أفق التوافق السياسي.

وأشارت وسائل إعلام محلية إلى أن إعلان الحكومة السودانية تعيين كامل إدريس رئيسا للوزراء كشف عن عودة التوترات مع الحركات المسلحة الموقعة على اتفاق 'جوبا للسلام' لا سيما أن الخطوة تبدو كمحاولة لاستعادة توازن سياسي هش تحت وطأة الحرب والانقسامات السياسية والتنافس على المواقع والنفوذ في وزارات الحرب.

وترى أطراف 'اتفاق جوبا' ولا سيما حركة 'العدل والمساواة' بقيادة جبريل إبراهيم وزير المالية الحالي، وحركة 'تحرير السودان' بقيادة مني أركو مناوي حاكم إقليم دارفور، في الحديث عن 'حكومة كفاءات مستقلة' محاولة مبطنة لتقليص نفوذها السياسي وتفريغ الاتفاق من مضامينه.

ووفق موقع 'سودان تربيون'، احتدمت الملاسنات بين أطراف اتفاق سلام جوبا حول الـ25% من نسبة المشاركة في السلطة، وذلك بالتزامن مع مشاورات يجريها رئيس الوزراء لتشكيل الحكومة الجديدة.

هذا، وتبدو مهمة إدريس معقدة ولا يكمن ذلك في تشكيل حكومة جديدة فحسب، بل في إدارة تناقضات سلطة انتقالية يختلط فيها ما هو سياسي بما هو قانوني، فالتفسيرات المتباينة لنصوص 'اتفاق جوبا' بين من يتمسك بنسبة رمزية ومن يطالب بتمثيل نوعي في وزارات سيادية تعكس عمق المأزق.

ويشير إلى أن احتجاجات أطراف 'اتفاق جوبا' لم تعد حبيسة المواقف المكتوبة أو التحذيرات المبطنة، بل اتخذت منحى تصاعديا يعكس عمق الشرخ بينها وبين رئاسة الوزراء، ففي سلوك يختزل منسوب التوتر انسحب مناوي من اجتماع رسمي مع رئيس الوزراء كامل إدريس قبل بدئه متهما جهات 'لم يسمها' بتزوير مضامين اجتماعات سابقة، وقيادة حملة تشويه إعلامية ضده، في إشارة إلى ما يعتبره استهدافا سياسيا مقنعا.

كذلك عبر قياديون آخرون عن رفضهم الصريح أي صيغة حكومية تتجاوز دورهم من دون تنسيق أو تفاهم مسبق، معتبرين ذلك 'انقلابا ناعما' على معادلة الشراكة.

المصدر: RT + إعلام سوداني