معركة الكرامة في وادٍ… وتلفزيون السودان في وادٍ آخر

بقلم: محمد عثمان الرضي

أُتيحت لي الفرصة للوقوف ميدانيًا على تجارب بعض التلفزيونات في دول شهدت حروبًا متعددة، حيث جرى إعداد وتصميم برامج تلفزيونية مواكبة لمتطلبات المرحلة القتالية والحربية.

فقد أوقفت تلك التلفزيونات جميع برامجها المعتادة، وتوجهت نحو برامج التعبئة والقتال، واستنفرت كوادرها لارتداء البزة العسكرية، ودُفع بهم إلى ميادين المعارك لتوثيق مجريات الأحداث بالصوت والصورة عبر النقل الحي.

منسوبو تلك الدول المقاتلة جعلوا من الخنادق مقابرهم، وتركوا متاع الدنيا خلفهم، وتفرغوا تمامًا لميدان القتال كمراسلين حربيين، فأبلوا بلاءً حسنًا في تمليك المعلومات الحقيقية من أرض المعركة.

أما المشاهد السوداني فقد الثقة تمامًا في برامج وأخبار تلفزيون السودان، فاتجه إلى القنوات الفضائية العالمية لمتابعة الأحداث، ليكشف عجز التلفزيون القومي عن تقديم برامج ذات قيمة وأثر باقٍ يثير اهتمام الجمهور.

ما أنفقته الحكومة السودانية أثناء الحرب من أموال طائلة على ترقية وتحسين تلفزيون السودان، لو صُرف على أصغر منصة إعلامية إلكترونية يشرف عليها شاب مبتدئ، لحقق نجاحات مذهلة وأحدث اختراقات نوعية غيّرت المفاهيم وأدهشت الكثيرين.

للأسف، العقول التي تدير تلفزيون السودان تقليدية وتفتقر إلى روح الإبداع والابتكار، وتعمل بسياسة 'رزق اليوم باليوم'، وسيظل حال التلفزيون في المحطة الصفرية، لا يتقدم خطوة إلى الأمام، ليصبح أضعف حلقات الإعلام في البلاد، ويتجاوزه الزمن ما دام ارتضى لنفسه هذا الواقع.

إدارة التلفزيون الحالية لا تملك استعدادًا لسماع آراء الخبراء والناصحين، وكل صيحة نقد تُحسب عليهم، ولديهم قدرة فائقة على تصنيف المنتقدين في خانة 'العدو'.

نصيحتي لمتخذي القرار في الدولة هي تكوين لجنة من العلماء والخبراء في مجال الإعلام لتقييم أداء تلفزيون السودان منذ اندلاع معركة الكرامة وحتى اليوم.

إعداد وإنتاج أفلام وثائقية عن الجرائم والفظائع التي ارتكبتها مليشيا الدعم السريع ضد المواطنين الأبرياء يُعد من أوجب واجبات التلفزيون القومي، لتمليكها للرأي العام المحلي والإقليمي، لكن للأسف هذا لم يحدث ولن يحدث.

القائمون على أمر التلفزيون بحاجة إلى دورات تدريبية من خبراء مختصين في إعلام الحروب، ليتعلموا كيفية التعاطي الإعلامي مع ملفات الحرب.

المدير العام للهيئة القومية للإذاعة والتلفزيون، الأستاذ إبراهيم البزعي، إعلامي من الطراز الأول، وله مقدرات فائقة في البرامج التوثيقية في مجالات الفن والشعر والنثر، لكنه لم يتمكن من التفرغ لإدارة التلفزيون، وفضّل البقاء بجوار زملائه في الإذاعة القومية التي يجد نفسه فيها، وهو أهل لذلك.

ومع كامل الاحترام والتقدير لتاريخ وعطاء الأستاذ البزعي، إلا أنه عجز تمامًا عن إدارة التلفزيون، بسبب دس المحافير، وهكذا حال من يتولون أمره.

هناك كفاءات نادرة عملت في التلفزيون لفترات طويلة، ولديها الاستعداد اليوم قبل الغد لاستئناف نشاطها بقوة، لكنها مُبعدة لأن نجاحها وإقناعها يشكل تهديدًا لمن يمسكون بمفاصل التلفزيون.

لن ينصلح حال تلفزيون السودان ما لم يحدث تغيير جذري في الخارطة البرامجية، واستيعاب دماء جديدة مؤهلة ومواكبة للتطور الإعلامي المذهل، لتكون إضافة حقيقية. ومع ذلك، نؤكد احترامنا وتقديرنا للعاملين الحاليين الذين أدوا دورهم على الوجه الأكمل، فلهم منا أسمى آيات الشكر والتقدير.