اخبار السودان
موقع كل يوم -أثير نيوز
نشر بتاريخ: ٨ تموز ٢٠٢٥
في تاريخ الشعوب، كثيرًا ما تأتي لحظات الحوار كفرصة للنجاة من السقوط الحر. ومتى ما أُخذت تلك الفرص بجدية، يمكن أن تصبح معابر حقيقية نحو الاستقرار والسلام. في السودان شكّلت تجربة الحوار الوطني التي أُطلقت في العام 2014 واحدة من تلك اللحظات التي بدأ فيها أن البلاد على وشك استعادة وعيها، وأن النظام السياسي القائم حينها قد تنبّه متأخرًا إلى استحالة الاستمرار على النهج ذاته دون مراجعة أو مصالحة وطنية.
هذه الأيام تبرز دعوة رئيس الوزراء الدكتور كامل إدريس إلى حوار وطني جامع كخطوة في الاتجاه الصحيح، تحمل بين سطورها إمكانات حقيقية لإعادة بناء الدولة السودانية على أسس جديدة من التوافق الوطني، والانفتاح السياسي، وتحقيق العدالة.
إن تأكيد الدكتور إدريس على أن يكون هذا الحوار 'سودانيًا-سودانيًا'، بعيدًا عن التأثيرات الإقليمية والدولية، يعكس فهمًا جيدا لخصوصية الواقع السوداني ، وإدراكًا بأن الحلول المفروضة من الخارج كثيرًا ما تتجاهل التعقيدات الداخلية ، وتُنتج أزمات جديدة بدلًا من الحل .
لكي تبلغ هذه المبادرة غاياتها، يجب ان تشمل كل القوى السياسية والاجتماعية، دون إقصاء أو انتقائية. فالسودان اليوم لا يحتمل مزيدًا من الصراعات الصفرية التي أضعفت الدولة ومزقت النسيج الوطني. إن العبور نحو مرحلة جديدة من الاستقرار يتطلب تجاوز الحسابات الحزبية الضيقة، والانخراط في مشروع وطني جامع، تُفسَح فيه المسارات القانونية للعدالة لا للانتقام، ويُحاسَب فيه من تلطخت أياديهم بالعنف ودعم الميليشيات أمام القضاء، لا أمام اللجان السياسية.
ولتحقيق ذلك، من الأهمية بمكان أن تُشكّل لجنة وطنية رفيعة، برئاسة رئيس الوزراء نفسه، تكون مسؤولة عن وضع أسس ومعايير هذا الحوار، وتحديد مرجعياته وقيده الزمني ، بما يضمن أن ينحاز الجميع للوطن، لا للمصالح الشخصية أو الأيديولوجية.
صحيح أن الحوار الوطني خلال فترة حكم الرئيس البشير لم يكن مثاليًا ولا خاليًا من العيوب، لكنه من حيث الشكل والمضمون، حمل بذور إمكان الانتقال إلى وضع جديد. ولولا العراقيل التي وُضعت في طريقه، لكان من شأنه أن يحفظ وحدة البلاد ويعالج كثيرًا من الشروخ التي طالت بنيتها الاجتماعية والسياسية بفعل سنوات من الانقسام والحروب.
لقد طُرحت في ذلك الحوار قضايا جوهرية: الهوية، شكل الحكم، توزيع السلطة والثروة، العدالة، الحريات العامة، العلاقة بين المركز والهامش، وإصلاح الدولة ومؤسساتها. ولو قُدّر لتلك التوصيات أن تتحول إلى برنامج وطني جامع، لكان السودان قد قطع شوطًا كبيرًا نحو الاستقرار.
لكن التجربة توقفت عند منتصف الطريق، لأسباب متعددة ليس هذا موضع تفصيلها، إلا أن الثابت أن الحوار الوطني آنذاك مثّل لحظة نادرة من الإدراك السياسي بأن البلاد لا يمكن أن تُحكم بمنطق 'اللاعب الأوحد'.
اليوم، لا بد من مقاربة جديدة تستثمر في السلام، وتؤسس لحوار وطني جديد، في ظل ظروف أكثر تعقيدًا وهشاشة. فالحرب الأخيرة فتحت جروحًا عميقة في الجسد السوداني، لم تترك مدينة ولا قرية إلا وطالها أثرها، ووضعت الجميع أمام سؤال المصير. وما يطرحه الدكتور كامل إدريس من دعوة لحوار جامع، هو امتداد واعٍ لتلك اللحظة التي حاول فيها السودان سابقًا في ' نيفاشا، ابوجا' يتجاوز عثراته بالحوار الوطني.
الدعوة الحالية، في ظاهرها، تسير في الاتجاه الصحيح: لا إقصاء، لا انتقام، لا مساومات أو ابتزاز. بل لقاء وطني شامل يُناقش قضايا السودان الكبرى بشفافية وتجرد، ويستفيد من دروس الحرب . أما الالتزام بالعدالة الناجزة لا الانتقالية، وعن لجنة يرأسها رئيس الوزراء نفسه لوضع الأسس والمعايير، فكلها ضمانات إلى أن هذا الحوار المرتقب قد يملك من الجدية والوضوح ما لم يتوفر في محاولات سابقة.
إن الرهان على الحوار ليس ضعفًا، فالدول لا تُبنى بالعنف ولا بالغلبة، بل بالتوافق والتفاهم حول الثوابت. وما يحتاجه السودان اليوم ليس أكثر من فرصة جادة لتلاقي الإرادات الوطنية، بعيدًا عن الضغائن والتصنيفات، مستندًا فقط إلى ما ينفع البلاد ويجمع أهلها على كلمة سواء.
وإذا أُحسن تنظيم هذا الحوار، وصدقت نوايا تنفيذه، وتُركت تفاصيله لأهل الرأي والكفاءة لا لاعتبارات الولاء والتقاسم ، فقد نكون أمام لحظة تصحيح تاريخية لا تقل أهمية عن تلك التي بدأها الحوار الوطني السابق. ولو اكتملت يومها، لكان السودان قد عبر إلى مرحلة جديدة تحفظ له وحدته، وتصون نسيجه الاجتماعي، وتضع حدًا لدورات العنف التي أنهكته.
ولذلك، وبحسب ما نراه من #وجه_الحقيقة، فإن ما نحتاجه اليوم ليس فقط فتح قاعة حوار، بل استعادة الإرادة الوطنية، ومنح الفرصة لصناعة مستقبل جديد، بعيدًا عن المناورات السياسية. إن في هذا الوطن ما يستحق أن نتحاور من أجله، بصدق وبمسؤولية، دون ارتهان القرار للخارج ، وبوعي تاريخي منتبه بأن الوقت لم يعد في صالح أحد.
دمتم بخير وعافية.
الثلاثاء 8 يوليو 2025م Shglawi55@gmail.com