اخبار السودان
موقع كل يوم -أثير نيوز
نشر بتاريخ: ٢٦ تموز ٢٠٢٥
في ظاهرةٍ تلامسُ جوهرَ الهويةِ الإنسانية، يظلُّ الحنينُ للمكانِ قوةً تجزبك الى اعماق الشوق للرجعة فتزرف الدموع شوقا الى عمق المكان. إنه ليس مجردَ ذكرياتٍ عابرة، بل هويةٌ متجذرةٌ في دواخلنا تلامس الذاكرةِ بعد الرحيل والآن في رحلةٌ داخلَ روح السودان، من رحابةِ سهولِ القضارفِ ودفءِ قريةِ 'غبيشة'، إلى النبضِ الخرطوم المتسارعِ لـ'حي فريق الحاج بالجريف غرب' في رحلةٌ لتتبعِ خارطة الحنينِ التي يرسمها المغادرون بأنفاسهم.
– عبقرية المكان: غبيشة.. حيث يُنسجُ الكرمُ بخيوطِ الشمسِ والتربة:-
في عمقِ ولايةِ القضارف، حيثُ تمتدُّ الحقولُ الخضراءُ كبحرٍ من الحياة، تقعُ قريةُ غبيشة. ليست نقطةً على الخريطةِ فحسب، بل نظامٌ تكافلي لكرم متكامل الاركان. فكرمُ أهلِها 'اللامتناهي'، كما وصفَته انا ، ليسَ ادعاءً، بل واقعٌ عشته بنفسي وخالط اهلها وعشت معهم . تحدثت الدكتورةُ ' امل كرجوس'، المتخصصةُ في علم النفس الاجتماعي: 'الكرمُ في الريفِ السودانيِّ، خصوصاً بمناطقِ الزراعةِ المطريةِ كالقضارف، هو فلسفةُ حياةٍ نابعةٌ من طبيعةِ العملِ الزراعيِّ الجماعيِّ (النَفير) والتكافلِ الاجتماعيِّ. وفرةُ الأرضِ وإرهاقُها يتطلبانِ تعاوناً لا يعرفُ الأنانية، فيتحولُ الكرمُ إلى قيمةٍ وجوديةٍ'. هنا، في غبيشة، يُصبحُ فنجانُ القهوةِ المُرَّةِ طقساً للتواصلِ، و'تلاقي لارواح جميله ' ف(الدعوةُ لتناولِ الطعام) ليست مجردَ عادة، بل لغةٌ للاحترامِ الضيوف الوافدين . هذا النسيجُ الاجتماعيُّ الدافئُ هو ما يرسم على المكانِ سحراً لا يقاوم، ويجعلُ الحنينَ إليهِ 'يأكلُ الروحَ'، كحالِي وانا اعبر عن اشتياقٍي لهذا المكان وتالم عند اتزكر الاوقات التي قضيتها في غبيشه وايضا حنيني لهذا المكان 'يقتلني شوقُ لأرى الخرطوم'.
-الخرطوم: المدينةُ التي تستوعبُ الأرواحَ ولا تمنحُها كلَّ قرارتها:-
في الطرفِ الآخرِ من معادلةِ الحنينِ تقفُ الخرطوم، العاصمةُ الصاخبةُ، وخاصةً مدينة 'الجريف غرب' العريقة. إنها المدينةُ التي تستقبلُ آبناها الوافدينَ من كلِّ بقاعِ السودانِ وخارجه، حاملين معهم أحلامَهم وتراثَ المناطق التي وفدو او نزحو لها. يقولُ الباحثُ الاجتماعي ' عمر النجار ' في حديثٍه ' في قهوة الجزيرة' بالقضلرف: 'الخرطومُ هي وعاءُ الانصهارِ الخالد لزكريتنا، لكنها أيضاً هي مسرحٌ لاصعب واشد أشكالِ الاغترابِ الداخلي. وهنا الوافدُ يحملُ زكرى قريةً كاملةً في قلبهِ وهموم الرجعة وصدمة اللقاء ، وهو يحاولُ إعادةَ تشكيلِ جزئياتِها في زحامِ المدينةِ وصرامتها'. مدينة الجريف غرب، بجناينها وبساتينها وجروفها المخضرة وأزقتِهِ المألوفةِ ونواديها التي تحدثنا بحكاياتِ الأجيال، وتشكِّلُ نقطةَ ارتكازٍ لهويةٍ واصالة اهلها الطيبين . إنها 'مسقطُ رأسِي' اعشقها ، لكنها أيضاً جزءٌ من مدينةٍ كبرى لكنها قد تفصلُ النازح عن جذورِه الجديده
الروحيةِ العميقةِ المتجسدةِ في بساطةِ ودفءِ الريف التي عاشها. هذا التناقضُ بين الجاذبيةِ الصاخبة في العاصمةِ والاشتياقِ لطمأنينةِ الأصولِ في الريفِ هو لبُّ المعاناةِ الإنسانيةِ للكثيرين.
.الحنين: الجرح النازفُ والجسرُ المتين.. سيكولوجيةُ الاغترابِ الداخلي والانتماء الى الجزور:-
لماذا يصلُ الحنينُ إلى هذا الحدِّ من كثافةِ الألمِ الداخلي ؟ يشيرُ علمُ النفسِ الثقافيُّ إلى أنَّ الحنينَ للمكانِ (Topophilia) هو استجابةٌ عميقةٌ لتهديدِ الهوية. تحدثت الدكتورة ' تماضر عبد الله'، متطوعة بلجنة العودة الطوعية بولاية القضارف، قائله بصوت خافت 'في ظلِّ التحولاتِ الاجتماعيةِ والاقتصاديةِ السريعةِ، والنزوح الداخلي الكبير الذي تعرضة له هي واسرتها بحثاً عن العملِ والتعليمِ اخوانها، قالت بحزن ' يصبحُ المكانُ الأصليُّ للشخص رمزاً للاستقرارِ والهويةِ المفقودةِ أو المهددةِ. والحنينُ هو آليةٌ دفاعيةٌ نفسيةٌ، محاولةٌ لاستعادةِ التوازنِ عبرَ التعلقِ العاطفيِّ بملاذٍ آمنٍ في الذاكرة'. هذا التعلقُ ليسَ ضعفاً، بل شهادةٌ على قوةِ الروابطِ الإنسانيةِ مع الأرضِ والمجتمع. النداءُ الذي اطلقه متحدثا لكم وفي نفسي لتحدى كل النوازع التي في داخلي لحب القرية التي نزحت ليها (غبيشة) وكان القرار صعب حين قررت وقلت في نفسي ودموعي تقتال دواخلي حزنا بفراق من حببناهم من قلوبنا و لكرمهم وطيب معشرهم وصاروا كثر من اخوان وقلت في خاطري : 'سأشدُّ الرحالَ إلى الخرطوم تزكرت عند خروجنا من الخرطوم والخوف يتملكنا ونحن الحزن يقتلنا لفراقها وتكررت نفس الحظات انا افراق قرية غبيشة هذه القرية التي تمتلك كل مقومات الكرم والحب الاسري والانسانية … ودمعي تتقطر دما' لفراقها وقلبي يحترق شوقا لوصول للخرطوم ، ويجرُّبني الحنينُ للعودةِ إلى غبيشة'، ويعكسُ هذا التمزقَ الجميلَ بينَ قطبينِ متساويينِ في قوةِ الجذب: قطبُ الانجذابِ نحوَ المستقبلِ لعالم مجروح هنا اتوجس من صدمة اللقاء لل(الخرطوم)، وقطبُ يجزبني قرية التي قادرتها قرية (غبيشة) بولاية القضارف. إنه صراعٌ بينَ 'الحاجةِ إلى البقاء للحنين للمكان' و'الحاجةِ إلى الرجوع الي مسقط الراس'، وهو ما يجعلُ من الحنينِ سمةً مركزيةً في تجربةِ السودانيِّ المعاصر.
جمالُ العودةِ: الرجوعُ ليسَ هروباً.. بل تجديدٌ للعهد:-
فكرةُ 'العودة الى الجزور'، التي اصفها بـ 'جمالِ الرجعةِ والحنينِ لمسقط الراس فريق الحاج بالجريف غرب'، تتجاوزُ مجردَ رجعة عابرة. عودةُ إلى جزوري الأصليةِ، ولو مؤقتاً، هي عمليةٌ علاجيةٌ نفسيةٌ واجتماعيةٌ بالغةُ الأهمية. تُظهرُ دراساتٌ ميدانيةٌ أُجريتْ في مناطقَ مثلِ القضارفِ أنَّ هذا النزوح عززُ الشعورَ بالانتماءِ لدى الأفراد، ونقلُ القيمَ والتقاليدَ للأجيالِ الشابةِ المولودةِ في المدنِ، ويعيدُ شحنَ الطاقةِ النفسيةِ. كما أنَّه يحافظُ على استمراريةَ التراثِ الثقافيِّ غيرِ المادي، من لهجاتٍ وممارساتٍ اجتماعيةٍ وفنونٍ شعبيةٍ، مما يساهمُ في التنوعِ الثقافيِّ الغنيِّ للسودان. العائدُ يحملُ معه خبراتِ المدينةِ وتنوعَ رؤاها، بينما يعودُ محملاً بهدوءِ الريفِ وأصالتهِ، ليكونَ جسراً حياً بينَ عالمين.
.الوجهانِ لعملةِ الوطن: نحوَ فهمٍ أعمقَ للترابطِ الحضريِّ الريفيِّ:-
إنَّ التحديَ الذي تطرحهُ ظاهرةُ الحنينِ الشديدةِ ليس فردياً فحسب، بل هو تحدي مجتمعي. إنه يدعو إلى سياساتٍ واعيةٍ تعترفُ بقيمةِ المناطقِ الريفيةِ وتاريخها، وتسدُّ الفجوةَ التنمويةَ بينَ المركزِ والأطرافِ. الحلُّ لا يكمنُ في نفيِ أهميةِ المدنِ أو التخليِ عن التقدم، بل في بناءِ استراتيجياتٍ تنمويةٍ متوازنةٍ تحافظُ على خصوبةِ وحيويةِ الريفِ السودانيِّ اقتصادياً واجتماعياً وثقافياً. دعمُ الزراعةِ المستدامة، وتحسينُ البنيةِ التحتيةِ من تعليمٍ وصحةٍ في الأرياف، وتشجيعُ السياحةِ الثقافيةِ الداخليةِ التي تُعرفُ سكانَ المدنِ على جمالِ وتنوعِ بلادهم، كلُّها خطواتٌ حيويةٌ. كما أنَّ تعزيزَ الروايةِ الثقافيةِ الوطنيةِ الشاملةِ التي تُبرزُ وتُحترمُ خصوصياتِ كلِّ منطقةٍ، من شرقِ السودانِ بثقافةِ البجا، إلى غربِه بتراثِ دارفورَ، إلى وسطِه وجنوبِه، سيجعلُ من 'الاغترابِ المكانيِّ الداخلي' حالةً أقلَّ حدةً.
الخاتمة: الحنينُ.. نبضٌ لا ينقطعُ في جسدِ الأمة:-
قصيدةُ الحنينِ التي نقرأها بينَ سطورِ هذا النداءِ الإنسانيِّ العميقِ – 'لا حزنَ على راحلٍ ولا أسفاً على مستغنٍ… قرية غبيشة بالقضارفِ حنينُ الشوقِ للرجعه لها ايضا' – ليست مجردَ مشاعرَ شخصية. إنه تعبيرٌ صادقٌ عن حالةٍ جماعيةٍ تعيشُها أعدادٌ كبيرةٌ من السودانيينَ في الداخلِ والخارج. إنه حنينٌ يزكّرنا بأنَّ الهويةَ الوطنيةَ ليست كتلةً صماء، بل هي فسيفساءٌ غنيةٌ بجذورٍ ريفيةٍ وأغصانٍ حضرية. فهمُ هذا الحنينِ واحتضانُه ليسَ ترفاً، بل ضرورةٌ لبناءِ مستقبلٍ للسودانِ يعترفُ بقدسيةِ الماضي ويستندُ إلى قوةِ التنوعِ، مستقبلٍ لا يضطرُّ فيهِ أحدٌ لأنْ يُقاسي لوعةَ البُعدِ عن 'غبيشةِ' هي روحهِ، أو عن 'فريق الحاج بالجريف غرب' هو ذاكرتهِ. إنَّ الاعترافَ بهذا الألمِ الجميلِ هو الخطوةُ الأولى نحوَ جعلِ الحنينِ قوةً دافعةً للتواصلِ والبناءِ، بدلاً من أنْ يكونَ جرحاً نازفاً في خاصرةِ الوطن.
الشكر والتقدير لكل اهلي في غبيشه ساموت شوقا لكم وانا اتحرق شوقا للقياكم اهلي بفريق الحاج بالجريف غرب ( الخرطوم)
اعلام الدرع