اخبار السودان
موقع كل يوم -اندبندنت عربية
نشر بتاريخ: ١٤ تشرين الأول ٢٠٢٥
من يطالع ما ينشر عن حياة هؤلاء العائدين يعجب لهممهم في الإعمار
لم نسمع عن السودان منذ عامين ونيف خبراً في بشارة منظمة الهجرة الدولية. فجاء ضمن تقرير أخير عودة أكثر من مليوني نازح داخلي وخارجي بسبب تحسن الأوضاع الأمنية بين الـ11 من نوفمبر (تشرين الثاني) عام 2024 وأغسطس (آب) الماضي، وهي الفترة التي ترافقت مع استرداد القوات المسلحة لولايات الجزيرة وسنار والخرطوم، وهذا أمن استظلت بالحرب به جمهرة فارعة لم يقع لمن طلبوه من دونها.
ثار القول عن شرعية الحكم في السودان في أعقاب إعلان قوات 'الدعم السريع' لحكومتها في يوليو (تموز) الماضي وفي سياق مشروع الرباعية لإحلال السلام في السودان (سبتمبر-أيلول الماضي). ولم يزد إعلان ما عرف بـ'الحكومة الموازية' في السودان عن مزيد من التحريج على الحكومة المعروفة بـ'حكومة الأمر الواقع' في بورتسودان من قبل خصومها.
ليس من شك في أنه إذا كانت للسودان حكومة في يومنا، فهي تلك التي تدار من بورتسودان لا غيرها كانت عن أمر واقع، أو شرعاً. فأدلى القانوني المخضرم أحمد المفتي لهذه الصحيفة بفقه الشرعية الدولية فرّق فيه بين شرعية دولة ما والاعتراف بها، فقال إنه يقع الاعتراف للدولة عن طريقين لا ثالث لهما، أولهما بـ'الشرعية الدستورية' التي تكتسب عن طريق الدستور والقانون والانتخابات، وتوصف الحكومة الناتجة منها بأنها قانونية.
وفضلاً عن ذلك هنالك شرعية 'الأمر الواقع' بانتزاع السلطة من الشرعية الدستورية بالقوة، سواء كانت قوة السلاح (الانقلابات العسكرية)، أو قوة الجماهير (الثورات والانتفاضات)، أو بالتوافق الوطني، وتسمى الحكومة الناتجة من هذه الحال 'حكومة الأمر الواقع'، مما ينطبق على الحكومة الحالية القائمة في السودان. فمسألة الاعتراف الدولي إجراء سياسي تمارسه الدول في إطار سيادتها، وتعترف بحكومة ذات شرعية دستورية، كما تعترف بحكومة أمر واقع كما تفعل حالياً مع حكومة السودان الحالية القائمة. وعليه فالاعتراف الدولي إجراء مختلف عن الشرعية.
وعلم سلمان بلدو ومي حسن (نيويورك تايمز، 21 سبتمبر) بهذا الفقه إلا أنهما قررا أن يشغبا عليه، فقالا إن المجتمع الدولي يعترف بالقائم بالأمر، أي من له الحكم على أرض البلد وأهلها مما يعرف بـ'السيطرة الفعلية'. ومتى نشأ نزاع في البلد جرى العرف بالاعتراف بمن له السيطرة على العاصمة، وجاء الشغب هنا، فقالا إن هذا إجراء اقتضته الضرورة العملية، لكنه نصّب ديكتاتوريين على سدة الحكم في مقام حكام جاؤوا بالانتخاب. ومعلوم أن حكومة الأمر الواقع بالانقلاب عام 2021 في يومنا هي سلسلة حكومة أمر واقع بالثورة في ديسمبر (كانون الأول) 2018. وزاد بلدو ومي حسن بالقول إن 'السيطرة الفعلية' شجعت الثوار على النهوض باحتلال العواصم، مما قاد إلى حروب أهلية فظيعة، وهذا ما يتعثر فيه السودان. وجاء عنوانهما للمقالة 'السودان حاصل أن تعترف بطغمة عسكرية' في طلبهما للعالم أن يقلع عن فقهه في الاعتراف بالدول ويمتنع عن التمكين للديكتاتوريين بمبدأ 'السيطرة الفعلية'.
بدا من خطاب 'صمود' عن الشرعية رغبتها في أن يكون لها دور مقدم في مفاوضات وقف الحرب التي ستشرف عليها الرباعية، وهذا مصدر إصرارها ألا يكون السباق حول الشرعية بين بورتسودان ونيالا (مركز حكومة 'الدعم السريع') 'مسألة جوهرية في لب وقلب الصراع المسلح في السودان'. وستظل فرص تحقيق السلام في السودان، في قولها، ضئيلة ما لم تُقدم مسألة إيقاف الحرب على مسألة الجدل حول الشرعية الذي تحاول أطراف الحرب جعله واقعاً عملياً قبل القبول بالجلوس للتفاوض، أو الدخول في عملية سياسية لإنهاء الحرب. وهي المفاوضات التي تطلب فيها هذه القوى المدنية مثل 'صمود' أن يحتل قادتها واجهة مقاعد التفاوض. فهم، في قول بلدو ومي حسن، من تهوى لهم أفئدة السودانيين رغماً عن العالم الذي قرر أن حكومة بورتسودان هي حكومة الأمر الواقع. وزكى بلدو ومي حسن هؤلاء القادة لأنهم مؤيدون بشعبهم في حين لم يملكوا البنادق.
وليس معلوماً كيف زعم بلدو للقوى المدنية في مثل 'صمود' هذه الجماهيرية وهي تعيش حال تشرد في الميدان السياسي ووحشة، فغلب عليها الدوران حول نفسها في مؤتمرات تخرج من كل واحد منها باسم جديد. كما عادت سقيمة من غشيانها السدى المنظمات الإقليمية والعالمية الأثيرة عندها. فقال بكري الجاك عن الاتحاد الأفريقي بسبب اعتزاله لهم ما لم يقله مالك في الخمر، فتضاءلت هذه القوى المدنية حتى صارت صوت متحدث رسمي.
ولم تنجح هذه القوى في استقطاب أية جماهيرية حولها من مثل صناعة أجسام للإسعاف مبثوثة بين الناس مما لا بد منه في حرب مثل تلك التي تعنى بالعون الإنساني، واستغرب كاتب لنحول تنسيقية القوى التقدمية المدنية (تقدم) خلال مؤتمرها في آخر مايو (أيار) عام 2024 وهي التي كانت قررت باكراً في أغسطس 2023 أن ترتدف إدارات لخدمة الإسعاف من الحرب وسط الناس، فنوهت بضرورة 'بناء شبكة وطنية لإيصال المساعدات الإنسانية وحث الأسرة الدولية على دعم وإسناد المجتمع المدني السوداني العامل في المجال الإنساني من أجل مساعدته في الاستجابة الفاعلة للكارثة الإنسانية الماحقة'. وكلفت قيادياً فيها بالاسم بوصفه منسقاً لآلية سمتها 'آلية العمل الإنساني'، ولم تخرج هذه القوى المدنية لهذا العمل إلى يومنا هذا. فعرضت لجنة 'العون الإنساني' في ذلك المؤتمر التأسيسي ورقة مفاهيمية عن هذا العون لتخلص إلى تعذر قيام 'فريق العمل الإنساني' لينهض بتلك الخدمة إلى يوم الناس هذا.
وبدا مرات أن ما تشكو منه القوى المدنية من حكومة الأمر الواقع ليس أنها حكومة أمر واقع، بل مطلبها، في قول المتحدث الرسمي باسم 'صمود' بدري الجاك في كسب 'فوق شرعية الأمر الواقع' كشرط للدخول في أية عملية تفاوضية، وضرب مثلاً بتمسك الفريق أول عبدالفتاح البرهان بأن يخاطبه وزير الخارجية الأميركي السابق أنتوني بلينكن بصفته رئيس مجلس السيادة لا بصفته قائد القوات المسلحة فقط. ولا يدري المرء كيف أن صفة البرهان كرئيس مجلس السيادة ليست من مقتضى أنه حكومة أمر واقع لا زيادة ولا نقصان.
ورأى الجاك أن حكومة الأمر الواقع في بورتسودان تريد من وراء تشبثها بالشرعية ومن تعيين حكومة مدنية خاصة، اعترافاً إقليمياً ودولياً بأنها سلطة شرعية قانونية ليعاد تعريف الحرب على أنها بين حكومة شرعية ذات سيادة ضد جماعة متمردة، وأنه بالوسع التفاوض مع هذه الجماعة المتمردة على تحقيق السلام على شاكلة التجارب السودانية المتكررة التي توقع الحكومة السودانية خلالها اتفاق سلام عقب آخر منذ استقلال السودان عام 1956. وتريد حكومة بورتسودان من هذا الموقع، في قول الجاك، قبولها 'كحكومة شرعية يعني بالضرورة قدرتها في فرض إرادتها العسكرية عبر الوساطة الدولية'.
وبدا الجاك هنا كمن يرى أن الاتفاق هذه المرة بين الحكومة، حكومة الأمر الواقع، والمتمردين عليها لن يكون إعادة إنتاج لعقود من الاتفاقات السابقة السدى للسلام، وبدا وكأنه يقول إن 'الدعم السريع' 'تمرد' مختلف سيقتضي اتفاقاً مختلفاً عن الدارج منه فينا. ولا يدري المرء إن كان لمطلب حكومة بورتسودان بالشرعية، وتلك التي فوق الشرعية، ردة إلى تلك الاتفاقات المكررة العقيمة. ومهما يكن فالجاك بدا هنا كمن ينتظر اتفاقاً للسلام تنال فيه 'الدعم السريع' من الدولة ما لم ينله متمردون سبقوها.
ولم يكن الجاك بعيد الحرب حسن الظن بـ'الدعم السريع' دائماً كما في يومنا ليجعلها 'تمرداً' من طراز فريد. فلم يرها ضمن مقالة نشرها في الـ17 من أغسطس عام 2023 ترقى حتى مرقى الحركات المتمردة التي سبقتها، فعدها أعجوبة ثامنة للدنيا إن عقدنا على 'الدعم السريع'، وهي الامتداد الموضوعي والفلسفي لفكرة 'الجنجويد'، مهمة إنهاء التهميش وبناء دولة ديمقراطية حديثة. فليس يزكيه للمهمة سلوكه المشاهد من احتلال البيوت والاغتصابات والقتل العشوائي والنهب، منطق الغنيمة. وعليه لم يعد هنالك، في قول الجاك، قوات تسمى قوات 'الدعم السريع' وإنما هنالك ميليشيات خارجة عن أية سلطة، وليست لها قيادة مركزية موحدة تستطيع السيطرة عليها.
وجاء الجاك في مقالته القديمة بعوار في 'الدعم السريع' لم نسمع به فيمن سبق لهم التمرد على الدولة من قبل. ولا يعرف المرء لماذا قال الجاك إن الاتفاق مع 'الدعم السريع'، متى وقع، لن يكون تكراراً لاتفاقات مع 'تمردات' سبقت. و'الدعم السريع'، كما وصفها، انفراط مكتمل الأركان للسلاح يعمل 'بعقل الغنيمة وانتهاز الفرص للنهب والسرقة التي هي نمط حياة لعدد كبير من المنتسبين فيها'.
ويرفض الحزب الشيوعي بدوره إضفاء أية شرعية على حكومتي الأمر الواقع في بورتسودان ونيالا مع أن الأخيرة لم تسفر عن مجلس وزرائها بعد، وبدا أنه استبعدهما كذلك حتى من عملية التفاوض لوقف الحرب لأنه قفز من فوق مشروع الرباعية إلى تصميم الحكومة التي ستتولى الأمر بعد السلام، ودبجها ببرنامج لم يترك شاردة ولا واردة.
ويستغرب المرء أن شمل البرنامج مهمات لا تحتمل التأجيل، بل هي مما يجرى أمام أعيننا، فجاء في برنامج الحكومة الموعودة تأمين عودة النازحين لمنازلهم وقراهم ومدنهم وجبر الضرر وشحذ القدرات الذاتية في إعادة الإعمار وتعويض الفقد التربوي الناتج من أعوام الحرب، وهي مهمات تجرى في يومنا على أرض الواقع أقله في الولايات التي تحت حكومة الأمر الواقع في بورتسودان. فرأينا منظمة الهجرة الدولية تحصي مليوني سوداني عادوا لدورهم أفواجاً في الولايات المستعادة من 'الدعم السريع'.
والذي يطالع ما ينشر عن حياة هؤلاء العائدين يعجب لهممهم في الإعمار من مثل استعادة خدمات المياه والكهرباء والأسواق والشرطة والصحة وحتى زينة الشارع. واشتهر المهندس الشاب أحمد صبري الذي تحمل كاميرته كل صباح للناس هذه الفتوح عن عناية السودانيين بأنفسهم وبيئتهم. وواضح أن لا النازحين ولا اللاجئين انتظروا قيام الحكومة التي رتب الحزب الشيوعي لقيامها بعد حلول السلام.
من جانب آخر يصعب التصديق أن الحزب الشيوعي معني بالفاقد التربوي كما جاء في برنامج حكومته الموعودة، فلو صدقناه لما انتظر به حكومة تتخلق في الأحلام بعد، فلو أرقه هذا الفاقد التربوي لما خرجت نقابة المعلمين التي له نفوذ فيها تحتج على حكومة الأمر الواقع في بورتسودان حين عقدت في ديسمبر عام 2024 امتحانات الشهادة الثانوية المؤجلة بسبب الحرب في مناطق سيطرتها، بل استقبلت قاعات امتحاناتها آلاف الطلاب من مناطق 'الدعم السريع' وتكفلت بترحيلهم واستضافتهم. وانتقدت النقابة الحكومة وقالت إن عقد تلك الامتحانات هو مجرد 'بوليتيكا' تريد بها الحكومة القول افتراء إن زمام الأمر بيدها، بل ذهبت النقابة إلى اتهام الحكومة بالتدبير لفصل السودان لأنها، بعقد الامتحان ضمن ولاياتها، حرمت الآخرين في غير نطاقها، مما سيغبنهم غبناً يكرهون به وحدة السودان.
ويستغرب المرء لامتناع الحزب الشيوعي عن التعامل (لا الاعتراف) مع حكومة الأمر الواقع في جبهات لم ينفر من التعامل مع الرباعية فيها على كراهيته لها، فقال الحزب إنه سيتعاطى إيجاباً مع الرباعية في صون أمن النازحين واللاجئين وعودتهم وضمان سلامتهم في ديارهم، وله مع ذلك في الرباعية رأي أسوأ من رأيه في حكومة الأمر الواقع ربما، فاتهم دول الرباعية بتنفيذ مشروع مشترك للإجهاز على ثورة ديسمبر 2018 على تنافس أطرافها على النفوذ في السودان وموارده الغنية في اليوم التالي للحرب، وتوظيف موقعه الجيوسياسي للهيمنة على الثروات البكر في أفريقيا. فكيف بالحزب يقبل من الرباعية الإمبريالية ما لم يقبله من حكومة الأمر الواقع التي هي 'رجعية' في أسوأ أحوالها؟
وكان الحزب الشيوعي مع ذلك هو الحزب الذي خرج منه من مد يده لحكومة الأمر الواقع في بورتسودان لتخفيف وطأة الحرب على الناس، فبادر فرع الحزب في مدينة عطبرة العمالية التي أنشأ داخلها أقدم فروعه في البلد، إلى الاتصال بحكومة المدينة، متبرعاً بمولدات كهربائية تقي الناس الظلام. وثارت ضجة إزاء القرار لا نعرف إن هدأت حول إن لم يكن ذلك التقارب من الحكومة رجساً من عمل المرتدين عن صحيح القضية.
وقالت 'صمود' إن فرص السلام ستتضاءل ما لم تُقدم مسألة إيقاف الحرب على مسألة الجدل حول الشرعية الذي تحاول أطراف الحرب جعله واقعاً عملياً قبل القبول بالجلوس للتفاوض لإنهاء الحرب. وربما صح القول إن فرص السلام تضاءلت أيضاً إذا لم تحل الشرعية بين القوى المدنية مثل 'صمود' والحزب الشيوعي من استنفاد الفرص للخدمة الإنسانية للمدنيين الذين ما كلوا من الاحتجاج من ترويع الحرب لهم ولا ملوا، في مناطق سيطرة حكومة الأمر الواقع في بورتسودان. فلا نريد لجدل الشرعية أن يحول بينها وملايين السودانيين الذين رماهم حظهم التعيس تحت حكومة أمر واقع.