اخبار السودان
موقع كل يوم -أثير نيوز
نشر بتاريخ: ١٦ تموز ٢٠٢٥
—
في زمنٍ أصبحت فيه الحروب تُخاض عبر الشاشات كما تُخاض على الأرض، ومع تسارع التطور التقني والذكاء الاصطناعي، تبرز السيادة الرقمية كأحد أهم مرتكزات بقاء الدول في القرن الحادي والعشرين. لم تعد السيادة تقتصر على السيطرة على الأرض والموارد، بل أصبحت تعني القدرة على حماية حدود الدولة في الفضاء السيبراني، وإدارة المعلومات، ومنع التدخل الخارجي في الوعي الجمعي والمزاج الشعبي.
السودان في مهب الفوضى الرقمية
تعيش الدولة السودانية اليوم واقعًا رقميًا هشًا، تعمّه الفوضى المعلوماتية، وتتنازع فيه الأصوات والجهات، وتُستخدم فيه وسائل التواصل كسلاح فتاك لتفكيك الجبهة الداخلية وبث الإحباط وتحطيم الثقة بالمؤسسات. وفي ظل الحرب الإعلامية المدفوعة بالتقنيات الحديثة وأدوات الذكاء الاصطناعي، بات من الضروري أن يُفعل قانون المعلوماتية بحزم، ليس لمجرد الرقابة، بل لحماية الدولة من التفكك الرقمي والسياسي.
ما يجري في المنصات ليس مجرد حرية رأي، بل في كثير من الأحيان حرب منظمة، تستغل غياب الضوابط وتستخدم الخوارزميات كأدوات اختراق ناعم تستهدف الهوية والسيادة والثقة العامة.
السيادة الرقمية: دروس من العالم
في وقت تحاول فيه بعض الدول النامية اللحاق بالركب الرقمي، سبقتها دول كثيرة في بناء منظومات متكاملة لحماية سيادتها الرقمية، منها:
الصين: طورت 'جدار الحماية العظيم' الذي لا يحجب فقط المحتوى الضار، بل يُمكّن بكين من رسم سرديتها الوطنية وحماية أمنها الداخلي من التسلل الإعلامي الغربي.
روسيا: سنت قوانين 'الإنترنت السيادي' وفرضت على مزودي الخدمة تخزين البيانات داخل البلاد، ومنحت سلطات الدولة حق التدخل الفوري لقطع أو إعادة توجيه الإنترنت في حالات الطوارئ.
إيران: طورت شبكة وطنية داخلية (شبكة المعلومات الوطنية) تسهم في استمرار الخدمات حتى في حالات الانفصال عن الإنترنت العالمي، وواجهت مؤخرًا هجمات سيبرانية إسرائيلية باستخدام منظومات دفاعية رقمية فعالة.
دول الخليج: وعلى رأسها الإمارات والسعودية، تبنت تشريعات صارمة ضد الجرائم الإلكترونية، واستثمرت في الأمن السيبراني والذكاء الاصطناعي، وأطلقت مراكز سيادية لمراقبة وإدارة المحتوى، بما يحفظ استقرار الدولة ويحارب الخطاب التحريضي والمخترِق.
أين السودان من كل هذا؟
في ظل هذه التجارب، تبرز ضرورة امتلاك السودان لمقومات السيادة الرقمية، والتي تشمل:
1. تشريع صارم ومرن في آنٍ واحد، يُلاحق من يعبث بالمعلومات، ويُجرم الاستخدام العدائي للتقنية.
2. منظومات مراقبة وتحليل رقمية، تستخدم أدوات الذكاء الاصطناعي لكشف حملات التضليل وتحديد مصادرها.
3. توطين التقنية وتدريب الكفاءات الوطنية على حماية السيادة السيبرانية.
4. إطلاق مشروع وطني للسيادة الرقمية يشمل شبكة وطنية مستقلة، ومراكز دفاع رقمي، وتعاون إقليمي مع دول شبيهة في التحديات.
الحرب القادمة ليست خيالاً
التجربة الإيرانية – الإسرائيلية الأخيرة أثبتت أن الجبهة الرقمية ليست ثانوية. إذ تم استهداف منشآت، وبُثت أخبار مزيفة، وخلقت حالة من الهلع الشعبي، وكل ذلك عبر أدوات 'غير تقليدية'. نحن أمام حرب هجينة، لا رصاص فيها ولكنها توقع ضحايا على مستوى الوعي والأمن القومي.
سيادة الدولة تبدأ من حماية العقل الجمعي
إذا كانت المؤسسة العسكرية تُدافع عن حدود السودان بالسلاح، فإن المؤسسات المعلوماتية والأمن السيبراني يجب أن تدافع عن الوعي الوطني، وتمنع تسلل الأعداء عبر الأكاذيب الرقمية، وتحمي أجيال السودان من الانهيار الثقافي والنفسي.
إن السيادة الرقمية ليست ترفًا فكريًا، بل قضية أمن وطني. وعلى الجهات المختصة، التشريعية والتنفيذية والأمنية، أن تضع هذا الملف في صدارة أولوياتها، فالسودان اليوم في مواجهة عدو غير مرئي، أداة حربه هي 'المعلومة'، وساحته 'هواتفنا'.
إن كنا نريد سودانًا مستقلًا حرًا في قراره، فلنبدأ بحماية سيادته الرقمية… قبل أن يكتب الآخرون روايتنا نيابة عنا.