اخبار المغرب
موقع كل يوم -العمق المغربي
نشر بتاريخ: ٣ أب ٢٠٢٥
في تحليل جيوسياسي قدمه إبراهيم بلالي أسويح، عضو المجلس الملكي الاستشاري للشؤون الصحراوية، لم تعد مبادرة الحكم الذاتي مجرد مقترح لإنهاء نزاع إقليمي، بل تحولت إلى مدخل محوري أعاد تشكيل التوازنات الإقليمية والدولية لصالح المغرب، مرسخة دور المملكة كفاعل استقرار وتنمية في منطقة مضطربة.
ويوضح أسويح أن الدبلوماسية الملكية، برؤيتها الاستشرافية، نجحت في تحويل الأقاليم الجنوبية إلى قطب استراتيجي جذاب، يقوم على منطق 'رابح-رابح'. ففي ظل عالم يتسم بالتنافس المحموم على مناطق النفوذ، استطاع المغرب تقديم مبادرته كحل واقعي وجاد، يستجيب للديناميات الجيوسياسية الجديدة، ويكسب تأييدا دوليا متزايدا توج باعترافات قوى كبرى بجدية وواقعية المقترح المغربي.
ويشير التحليل إلى أن التحولات الدولية، خاصة الصراع بين القوى العظمى، دفعت دولا وازنة مثل الولايات المتحدة، إسبانيا، وفرنسا، إلى الانخراط بشكل واضح لدعم المبادرة المغربية، واعتبارها 'القاعدة الوحيدة' للوصول إلى حل سياسي. هذا الدعم لم يأتِ من فراغ، بل هو نتيجة لإدراك هذه القوى للدور الاستراتيجي الذي يلعبه المغرب كحليف موثوق وشريك أساسي في الحفاظ على الأمن والاستقرار الإقليمي، خاصة في منطقة الساحل والصحراء.
ويؤكد أسويح أن المغرب لم يكتفِ بالترافع الدبلوماسي، بل عزز موقفَه على الأرض. فمن خلال 'النموذج التنموي الجديد للأقاليم الجنوبية'، الذي أطلقه جلالة الملك سنة 2015، والمبادرات الاستراتيجية الطموحة مثل 'المبادرة الأطلسية' لولوج دول الساحل إلى المحيط، أثبتت المملكة جديتها في تحويل المنطقة إلى فضاء للتنمية والازدهار، مما منح مبادرة الحكم الذاتي مصداقية أكبر.
ويخلص التحليل إلى أن الموقف التفاوضي للمغرب اليوم بات أكثر قوة، مدعوما بإجماع دولي متنام، وبواقعية سياسية تفرض نفسها على الساحة الدولية. ومع تزايد الاهتمام الأمريكي بحسم هذا الملف، يبدو أن المسار التفاوضي المستقبلي، تحت مظلة الأمم المتحدة، سيتجه بشكل واضح نحو اعتبار المبادرة المغربية الإطار الوحيد والجاد لأي حل سياسي، مما يفتح آفاقا جديدة لطي هذا النزاع بشكل نهائي.
وفيما يلي نص المقال كاملا:
تـــــمهيد:
في هذا السياق المتنامي حول اعتبار المبادرة المغربية للحكم الذاتي التي تقدم بها المغرب منذ سنة 2007 ، المشروع الوحيد القابل للتطبيق عبر آلية المفاوضات التي ستشرف عليها الأمم المتحدة في المرحلة المقبلة للحسم النهائي في ملف هذا النزاع المفتعل حول الأقاليم الجنوبية المغربية ، لابد من التذكير بالدور المحوري الذي لعبته الدبلوماسية الملكية في تدبير التعاطي بمقاربة شمولية مع مسار الترافع الدولي خلال العقدين الماضيين، والذي أفضى إلى هذا الزخم من التأييد لهذه المبادرة من مختلف القارات، بل أن العشرات من هذه الدول فتحت لها تمثيليات قنصلية بمدينتي العيون والداخلة.
نهج الدبلوماسية الملكية تركز بالخصوص، على الرفع من المستوى التنموي للأقاليم الجنوبية، لإعطاء المزيد من المصداقية والواقعية لمشروع الحكم الذاتي من جهة أولى، ثم ترسيخ أكثر فعالية لانخراط هذه الأقاليم ضمن المتغير الإقليمي والقاري ثم العالمي عبر جهود هذه الدبلوماسية التي حددت المعالم الكبرى لصدق الصداقات ونجاعة الشراكات من منظار ملف الوحدة الترابية للمملكة من جهة ثانية، والانتقال لمرحلة التغيير من جهة ثالثة.
إن فهم مشروع الحكم الذاتي المغربي لا يقتصر – رغم الأهمية القصوى لذلك – على مستوى تعريف أو تنزيل هذا النظام، والذي بموجبه يتم توزيع الصلاحيات أو الاختصاصات بين المركز والجهة، وهو خيار اللامركزية الذي يتبناه المغرب في مسلسل تحقيق التوازن والعدالة الترابية الذي أقره دستور المملكة سنة 2011 ، بل أن المبادرة المغربية هي ضمنيا تستجيب لتطلعات جيوسياسية بمنطق رابح-رابح ،أصبحت معه رياح التغيير الإقليمي والعالمي تفرض نوعا من التوافق حول طبيعة التسوية الممكنة، والتي لن تخرج عن العملية السياسية، وأطراف هذا النزاع المفتعل الحقيقيين والغاية منها، التي هي الوصول إلى الحل الواقعي التفاوضي ،كما تنص على ذلك قرارات مجلس الأمن المتعاقبة خلال الآونة الأخيرة ،والتي تخلت بشكل نهائي عن المقترحات الديماغوجية، من مخلفات حروب التوازن الأيديولوجي، لفسح المجال لحسابات ضمان المصالح المشتركة في نظام عالمي جديد ، لا يؤمن بثقافة الانفصال التي أصبحت ترادف في حالات كثيرة عدم الاستقرار والتهديد الإرهابي …
لقد استطاع المغرب من خلال هذه المبادرة، أن يجعل من الأقاليم الجنوبية منصة فعالة لضمان الاستقرار وجلب الاستثمار، للعب أدوار جيوسياسية في العمق الأفريقي، وتحديدا في الساحل وغرب القارة ثم جنوب الأطلسي، مما عزز من هذا الدعم الدولي الذي يراهن على هذه البوابة الآمنة ضد الاضطرابات التي تعرفها منطقة الساحل والصحراء عموما، وتأثير ذلك على السلم والأمن الدوليين.
من هذا المنطلق إذن، سنخصص المحور الأول من هذا المقال لتحليل المتغير الجيوسياسي، مع التركيز على دوره المحوري في توسيع دائرة الدعم الدولي لمبادرة الحكم الذاتي المغربية حول الصحراء، وذلك من خلال إبراز الأبعاد الجيوسياسية التي ساهمت في ترسيخ شرعيتها ومصداقيتها على المستويين الإقليمي والدولي، في حين نستعرض خلال المحور الثاني تجليات رهان الواقعية وأفاق التفاوض التي يتحلى بهما مشروع مقترح الحكم الذاتي المغربي كإطار لتسوية النزاع حول الصحراء.
المحور الأول: المتغير الجيوسياسي في دعم المبادرة المغربية للحكم الذاتي:
لطالما شكل السياق الجيوسياسي قاعدة لسبر أغوار النزاع الإقليمي حول الصحراء المغربية، وذلك لقياس التجاذبات التي ترخي بظلالها على التسوية النهائية، التي بات من شبه المؤكد أنها جعلت من هذه الأقاليم الجنوبية للمملكة رهانا مغاربيا في توفير أرضية للسيطرة والتحكم، تتسارع العديد من القوى العظمى إلى التموقع الى جانب المملكة المغربية في هذا الخلاف الإقليمي، وفقاً لحسابات جيواستراتيجية وأمنية واقتصادية.
لقد نجح المغرب الى حد كبير في تحقيق طموحه المعلن على الصعيد الإقليمي في تكريس موقع استراتيجي كمركز اقتصادي ومالي بين القارتين الأوربية والأفريقية، ومحور فعال في الشراكة الاستراتيجية جنوب-جنوب، قائمة على تعزيز التعاون رابح – رابح، والذي رغم هذه الاضطرابات الإقليمية استطاع ترسيخ دوره كقطب للاستقرار، من خلال جعل الأقاليم الجنوبية محور استراتيجيته في التنمية والاندماج. ومع ذلك فان هذا الدعم الغربي الواسع والصريح بشكل متنامي وراء مبادرة الحكم الذاتي التي تقدم بها المغرب، لا يمكن بأي حال من الأحوال فصله عن التطورات الجيوسياسية التي يشهدها العالم في الآونة الأخيرة، وتحديداً الصراع المحتدم بين الغرب والقطب التي تقوده الصين وروسيا، وانعكاسات ذلك على التوازنات الإقليمية في المنطقة المغاربية و القارية عموما.
فإلى أمد ليس بالبعيد كان هذا النزاع الإقليمي، والذي تشرف عليه الأمم المتحدة حصرياً يعرف حالة من الجمود النسبي وهو الذي عمر لخمسة عقود، فقد أصبحت تلوح في الأفق القريب حسب آخر تقرير لمعهد السلام التابع للكونغرس الأمريكي بوادر بداية الحسم والطي النهائي له بعد زخم الاعتراف الدولي المتزايد بمغربية الصحراء وأولوية وسمو المقترح المغربي للحكم الذاتي المكرس بقرارات مجلس الأمن المتعاقبة آخرهم كان قرار أكتوبر الماضي رقم 56 27. (1)
لا مناص إذن، من أن عالم اليوم يشهد تنافسا بين الغرب والكتلة التي تقودها الصين وروسيا، تحول إلى حرب باردة جديدة، وهناك سباق محموم بين الجانبين لتعزيز نفوذهما في المحيط الهادي وخاصة في تايوان، بالمقابل تحاول بيكين مع موسكو الحصول على قواعد عسكرية على ساحل المحيط الأطلسي، وتسعى الولايات المتحدة الأمريكية لإبقاء دور المحيط الأطلسي كساحة أمامية في استراتيجية الردع وحماية مصالحها. لذلك فهي ترى أن أي وجود عسكري صيني روسي دائم هناك، وخاصة إنشاء قاعدة بحرية تمثل تهديدا خطيرا للأمن القومي الأمريكي، هذا الفهم العميق للدور الاستراتيجي الذي تلعبه المملكة إقليميا وقاريا جعل الرئيس الأمريكي دونالد ترامب خلال فترة ولايته الأولى يعترف بالسيادة المغربية على الصحراء ديسمبر 2020 ، وعدم تراجع إدارة الديمقراطيين برئاسة جون بايدن فيما بعد،جعل الشراكة مع المغرب مميزة كحليف قوي خارج نطاق حلف شمال الأطلسي عبر بوابة استمرار التعاون لمكافحة الإرهاب من خلال التنسيق العسكري والأمني لاسيما مع متابعة تنفيذ اتفاقية التعاون الدفاعي الممتدة حتى عام 2030. (2)
هذا السياق المتوتر دفع بالولايات المتحدة الأمريكية أكثر فأكثر لإعادة رسم خريطة نفوذها الأمني في منطقة الصحراء والساحل، خصوصا بعد خسارة قاعدتها العسكرية في النيجر والحديث المتزايد عن إمكانية نقل قاعدة روتا جنوب إسبانيا إلى المغرب، وبالتالي يبقى نجاح هذه الاستراتيجية مرهونا بقدرة الولايات المتحدة الأمريكية والمغرب على مواجهة التحديات الإقليمية وتعزيز التعاون في مختلف المجالات . (3)
وإذا ما استحضرنا مواقف مجموعة من القوى الأوربية التي تتطابق مع الطرح المغربي كحالة إسبانيا منذ مارس 2022 ، وفي إطار نفس الدينامية كذلك فرنسا خلال يوليوز 2024 بالاصطفاف وراء المقترح المغربي باعتباره القاعدة الوحيدة من أجل الوصول إلى حل سياسي دائم، والذي سعى الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى التأكيد في قبة البرلمان المغربي أكتوبر الماضي على أن موقف بلاده هذا من المبادرة المغربية 'جاء بالنظر إلى تحيين المعطيات وتطورها بالنسبة للمتدخلين مع توافق دولي متزايد وواسع وتنمية اقتصادية واجتماعية للأقاليم الجنوبية للمملكة وهو ما يعكس رؤية فرنسا لعلاقة شاملة ومعمقة مع المغرب، قائمة على تصور صاحب الجلالة التي حددها في خطاباته السامية وهي علاقة أساسها التكامل والاحترام المتبادل تستهدف تعزيز هذا الاستقرار الإقليمي والشراكة المبتكرة والشاملة، التي تتجاوز التعاون التقليدي لتشمل أهدافاً طموحة تتماشى مع تحديات المستقبل' . فان الانخراط الغربي بذلك ما فتئ يتوسع من خلال مواقف دول وازنة كبريطانيا التي تميل إلى مزيد من الانفتاح على المبادرة المغربية، علماً بأن دولا أخرى كألمانيا وهولندا عبرتا في السابق على مواقف مماثلة مؤيدة، هذا المنحى لا يمكن اختزاله في مصالح آنية أو نتيجة قد تكون حتمية لعلاقات ثنائية بين الدول ، بل أن الأمر تعدى ذلك إلى تقاطع لمصالح مشتركة بين هذه الدول، مع الانخراط الكامل لغالبية الدول العربية (الإمارات العربية المتحدة، العربية السعودية، الأردن وغيرها) وكذلك الدعم الأفريقي، لخلق جبهة دبلوماسية للدفاع عن مشروعية الحكم الذاتي، ما فتئت تتوسع شيئا فشيئا مما يجد تفسيره في الديناميات الجهوية الحالية التي فرضت مراجعة مسار التسوية برمته لهذا الملف الشائك، نحو المقاربة الواقعية التي لم تعد كما هو الحال في السابق تخضع لنفس آليات التجاذبات و المحاور التي أعادت المنطقة المغاربية سنوات إلى الوراء، بعدما كان يبدو أن هذا الاستقطاب قد انتهى مع نهاية الحرب الباردة حيث جذور افتعال هذا النزاع والذي زاد من حدة الصراعات بين الجيران، مما ينذر بأن قواعد اللعب قد تغيرت ولم تعد مرهونة فقط بصراع المحاور بين المغرب والجزائر عبر تسارع جهود التسلح وزيادة التحالفات العسكرية مع القوى الكبرى المتنافسة، بل بالانتقال الى برغماتية أشمل وأعمق تتيحها حالياً ملامح الهندسة الجديدة للنظام العالمي الجديد لصالح المغرب، والذي ظل يتأرجح لفترة طويلة بين تأثير نظاميين إقليميين فرعيين هما النظام المغاربي ونظام غرب المتوسط ،وهما نظامان متداخلان وتمثل قضية الوحدة الترابية للمملكة أحد أهم عناصر تفاعلهما وتأثرهما المتبادل. مما سمح للمملكة بهامش واسع للمناورة، رغم تأثيرات هذين النظامين بفضل المكاسب الدبلوماسية الكبيرة خصوصا من لدن الأطراف المؤثرة كحالة إسبانيا وفرنسا، على اعتبار أدوارهم التاريخية والجيوسياسية التي من شأنها تحرير المغرب نسبياً من قيود الأنظمة الإقليمية التي تتجاذبه ،وفي مقابل ذلك ترى الجزائر في هذا المنحى تهديداً لها وهو ما يفسر ردة فعلها مباشرة من هاذين التقاربين المغربي الإسباني وكذا الفرنسي غير المتوقعين، والذي هو في الحقيقة ثمرة تراكمات لتعزيز موقع المملكة في النظامين الدولي والإقليمي، والذي تجلى بوضوح إبان تداعيات الحرب الروسية الأوكرانية، بالنظر إلى موقعه الجيوسياسي المهم، وهو يحاول كل ما في وسعه تعزيز هذه المكانة من خلال موقفه البراغماتي من هذه الأزمة وحفاظه على خطوة الاتصال مع مختلف شركاءه، ويظهر هذا جلياً من خلال انخراطه في الحراك الدبلوماسي الذي شهدته المنطقة العربية خلال الأسبوع الأول الذي تلى اندلاع أزمة أوكرانيا، ولعل من العوامل التي جعلت الدول الغربية توجه أنظارها إلى المغرب في هذا الوقت بالذات هو ما قد يقدمه من خيارات لأوروبا لتعزيز أمنها الطاقي، سواء ما يزخر به من مصادر الطاقة المتجددة الشمسية والريحية منها أو الاحتمالات الكبيرة لوجود احتياطات مهمة للغاز في الأراضي المغربية، وأيضا المشروع الواعد خط نيجيريا – المغرب الذي قد يسهم في تعويض الخصاص الأوربي وتنويع مصادر أوروبا من الطاقة.
ومما يزكي هذا الاحتمال، التعنت الجزائري إلى درجة الابتزاز مع المطالب الغربية بزيادة حجم صادراتها من الغاز إلى أوروبا وإعادة تشغيل أنبوب الغاز المغاربي – الأوروبي الذي يمر عبر المغرب، مما ينضاف إلى أسباب أخرى من المحتمل إنها قد سرعت بمزيد من التوافقات السياسية بين الرباط ومدريد، تمخضت عنها فيما بعد الإشادة الإسبانية بمبادرة الحكم الذاتي المغربية.
رهان المتغير الجيوسياسي لم يستثن منطقة الساحل والصحراء عموماً في إعادة ترتيب التوازنات في اتجاه ترسيخ دور فاعل للدبلوماسية الملكية، وتزامن ذلك مع تدشين النيجر ومالي وبوركينافاسو ل 'كونفدرالية الساحل' في تحالف ينظر إليه بوصفه 'محاولة لبناء محور إقليمي جديد قد يقصي الجزائر من التوازنات المستقبلية (4)،كما انخرطت هذه الدول في 'المبادرة الأطلسية' التي أطلقها جلالة الملك محمد السادس، وهي مبادرة تهدف إلى تمكين دول الساحل من الولوج إلى المحيط الأطلسي ،وهي خطوة مغربية مدروسة لتشكيل تكتل إقليمي جديد يمنح الرباط موقعاً متقدماً في منطقة الساحل، ويعزز حضورها في التعامل مع أوروبا من موقع الفاعل والمبادر، والذي باتت القوى الكبرى تتعاطى معه بنوع من الأمر الواقع، الذي أفرز هذا التأييد للمبادرة المغربية للحكم الذاتي ،خصوصا وأن منطقة الساحل والصحراء تشهد حالياً تنافسا شديداً بين الدول الإقليمية، بعد الانسحاب الكلي لفرنسا من بعض الدول، حيث دخلت كل من روسيا وتركيا والصين وإيران على خط الصراع الدولي لكسب معركة الوجود السياسي بها، وبالتالي وجدت منطقة شمال غرب إفريقيا نفسها مُنْخرطةً في هذا الصراع الدبلوماسي المتزايد باعتبارها مدخلاً إستراتيجيا للنفاذ إلى الساحل، مما جعل المغرب يحظى باهتمامٍ متزايد كفاعل في أي معادلة للتوازن والاستقرار، بعد تصاعد التنافس الفرنسي التركي في العديد من عواصم دول الساحل التي كانت إلى أمد قريب الحليف الأبرز لفرنسا، التي تراجع نفوذها بسبب بوادر التصدع مع أغلبية الأنظمة في المنطقة، خاصة في ظل انفتاح تشاد ومالي والجزائر والنيجر على تركيا مؤخراً، وبات هذا التطور يقلق فرنسا بشكل كبير بعدما تعزز هذا التعاون التركي مع دول المنطقة ليشمل قضايا أمنية وعسكرية في مواجهة التنظيمات الإرهابية. (5)
إعادة رسم محاور النفوذ الجيوسياسي حتمت على الدبلوماسية الملكية التقارب مع دول الساحل، التي اختارت أنظمتها العسكرية في باماكو وواغادوغو ونيامي الانفتاح على روسيا والتخلي عن الحليف التقليدي الفرنسي، كما تتجه في الوقت ذاته إلى شراكة مع المملكة، التي رويداً رويداً فرضت نفسها كقوة إقليمية ذات موقع جغرافي استراتيجي، واتصالات دولية مستقرة وأجندة تنموية واضحة، كما أن توتر علاقات هذه الدول مع دول إقليمية أخرى يعزز من أهمية المغرب كشريك بديل في مشاريع البنية التحتية والطموحات الإقليمية. (6)
وبدا من الواضح أن العزلة التي فرضها هذا التحالف على نفسه من خلال الانسحاب من المنظمات الإقليمية التقليدية مثل 'الايكواس' يقابله الآن محاولته فتح ممر جديد نحو الأسواق العالمية عبر المحيط الأطلسي. وفي السياق ذاته توترت مؤخرا علاقات هذه الدول مع الجزائر، حيث أعلنت هذه الدول مطلع أبريل الماضي استدعاء سفراءها من الجزائر احتجاجا على إسقاطها لطائرة مسيرة تابعة للجيش المالي في شمال البلاد قرب الحدود الجزائرية أواخر مارس الماضي
واللافت كذلك، أن الأبعاد الميدانية لمخاطر التوغل الإيراني في منطقة الصحراء والساحل، كان مصدر توجس وقلق بالغ للدول الغربية، والتي بادرت هي الأخرى إلى التنبيه إلى خطورة هذا الوجود الإيراني، بعقد منتدى في العاصمة الإسبانية مدريد بمبادرة من معهد كورد بناداس الإسباني للحكامة والاقتصاد التطبيقي يونيو 2023 ، تحدث فيه أعضاء البرلمان الأوروبي عن تغلغل إيران في منطقة الصحراء والساحل ،بما في ذلك تزويد انفصالي جبهة البوليساريو بطائرات مسيرة مما يشكل تهديداً حقيقياً ويتعين على الاتحاد الأوربي مواجهته. (7)
من زاوية أخرى، فإن توطيد العلاقات الحالية للمملكة مع الولايات المتحدة الأمريكية في النسخة الثانية للرئيس الأمريكي دونالد ترامب، وكذلك مع دولة إسرائيل يتوقع منه زيادة الضغوط للتسريع بإيجاد تسوية نهائية عبر تبني بشكل أكثر حسما للمبادرة المغربية كاطار وحيد للتفاوض، لأنها تضمن حفاظ الولايات المتحدة الأمريكية على موطئ قدم في الشمال الغربي لأفريقيا، الذي يشهد تراجعاً للنفوذ الفرنسي وصعودا للنفوذ الروسي، خصوصاً في كونفدرالية دول الساحل التي تساندها روسيا بطرق مختلفة من ضمنها نشر الفيلق الأفريقي في هذه المنطقة، والذي يمكن أن يمتد تأثيره على منطقة الصحراء المغربية وهو سيناريو لا ترغب واشنطن حدوثه.
انسجام مبادرة الحكم الذاتي مع بوصلة الاستقطاب الجيوسياسي القاري امتدت إلى الإتحاد الأفريقي، من خلال دور المغرب المحوري في تزعم التيار الذي يعتمد مقاربة جديدة للاتحاد، تقوم على الاهتمام بالقضايا التنموية من أجل تجاوز المقاربة التقليدية لصالح توجه جديد تحكمه في الأساس المصالح الاقتصادية على حساب الأجندات السياسية، وهو ما أضعف تعاطف الأفارقة مع ملف النزاع حول الصحراء ،أي بمعنى أدق تقديم حسابات السياسة في ثوب الاقتصاد، قد مكن المغرب من جلب تعاطف أفريقي معه في تثبيت سيادة المملكة على الأقاليم الجنوبية.(8)
من جانب آخر فإن السياسة وحدها ليست هي كل ما يحرك المغرب والجزائر للتقارب مع دول العمق الإفريقي، فثمة عوامل أخرى تفرض هذا التوجه وتأتي في طليعتها محاولة تعويض فراغ التكتلات الاقتصادية في شمال إفريقيا، بعد فشل مشروع المغرب العربي على المستوى الاقتصادي أو على الصعيد السياسي، وقد أصبح الانضمام إلى التكتلات الاقتصادية خياراً إستراتيجيا تمليه متطلبات العولمة ، ومما يغذي هذا السعي تراجع فاعلية السوق الأوروبية التي كانت شريكاً مهماً لدول الاتحاد المغاربي بسبب الهزات الاقتصادية والأزمات المالية المتلاحقة التي تعصف بالاقتصاد الأوروبي، وكذلك لنزوع دول عديدة في الاتحاد الأوروبي إلى القطع مع الشراكة الأوروبية وفق ضوابط الاتحاد، في ظل سياسات التموقع الذاتي التي باتت تنادي بها تيارات اليمين المتطرف والتي تحظى بحضور وازن في المشهد السياسي الأوروبي الحالي. (9)
هذه الحسابات الجيوسياسية الجديدة، لا تعني بأن المغرب والجزائر قد تخليا عن حساباتهما التقليدية الخاصة والمتعلقة بملف الصحراء، الذي ظل نقطة خلافية جوهرية بين البلدين على مستوى دوائر القرار في إفريقيا.
كذلك ومن منظور جيوسياسي صرف، فإن نجاح الدبلوماسية الملكية في الحفاظ على توازن دقيق في علاقات المغرب الدولية، ساهم في خلق فرص واعدة حول ترسيخ جدوائية المقترح المغربي للحكم الذاتي، وإن كان ذلك بدرجات متفاوتة، فقد فتح المغرب أبواب الاستثمارات للصين وروسيا، في حين أن معظم المصالح الاقتصادية المغربية لاتزال مرتبطة بالدول الغربية.
العلاقة المغربية الصينية لم تعد مجرد تعاون اقتصادي عابر، منذ انخراط المغرب المبكر كأول بلد في شمال أفريقيا في مبادرة 'الطريق والحزام الصينية' مما فسح المجال لشراكة استراتيجية، فرضت المزج بين الطموحات الجيوسياسية والمصالح التجارية المتبادلة عبر توافق سياسي غير معلن، يتجنب كل طرف التدخل في الشؤون الداخلية للطرف الآخر، ولعل التزام الرباط الحياد في قضايا حساسة لدى بيكين، كما هو الشأن في شينجيانغ أو تايوان وحتى في التبت، قد قابله ميل الدبلوماسية الصينية شيئا فشيئا نحو تحفظ هو أقرب إلى الحياد، وقد ظهر ذلك أثناء المناقشة والتصويت على قرارات مجلس الأمن الأخيرة بخصوص قضية الوحدة الترابية للمملكة.(10)
غير أن العامل البالغ الأهمية والذي سيلعب لصالح المغرب في سياق التحالفات الاستراتيجية الإقليمية، والذي أعطى مغزى لهذا التقارب الصيني المغربي، هو مكانة التميز التي تحتلها دول مجلس التعاون الخليجي بالنسبة للاقتصاد الصيني، وهو المجلس الذي أعلنت دوله وحدة المصير المشترك مع سيادة المملكة المغربية على الصحراء.
من جهة ثانية، سعى المغرب لتحييد الموقف الروسي ولو بشروط في نزاع الصحراء في الوقت الراهن، غير أن تعزيز التعاون الاقتصادي والذي شمل ميادين متعددة بما في ذلك رغبة روسيا إنشاء مناطق تجارة حرة مع أربعة دول عربية في إفريقيا، يتصدرها المغرب وهي دلالات سياسية لنزوح موسكو إلى تعاطي أكثر برغماتية مع التحولات الجوهرية في توازن القوى الإقليمية، خاصة في ظل سعي المغرب لتقوية تحالفه الدولي لدعم موقفه التفاوضي في اتجاه الطي النهائي لهذا النزاع، الذي يشكل بالنسبة للمغرب مرتكز الشراكة والتعاون، مما يفتح مزيداً من الآفاق الجديدة التي قد تغير قواعد اللعبة السياسية في المنطقة في ظل الدينامية التي يشهدها الملف في السنوات الأخيرة بفضل استراتيجية الانفتاح وتنويع الشركاء.(11)
المحور الثاني : مشروع الحكم الذاتي المغربي كخيار استراتيجي بين رهان الواقعية وآفاق التفاوض.
خمسون سنة على بداية النزاع المفتعل حول الصحراء المغربية، لازال المشهد الأممي يسوده نوع من التباين بين عرض إشارات إيجابية عن إحراز تقدم وأخرى باستمرار حالة الغموض والجمود في المسار الأممي لهذه القضية الشائكة.
ومهما يكن، فإن الدينامية التي ساهمت في تحريك المياه الراكدة لهذا الملف جاءت تدريجياً بتبني مجلس الأمن الدولي لمقاربة أكثر واقعية لصالح المبادرة التي تقدم بها المغرب لمنح الأقاليم الجنوبية حكماً ذاتياً تحت السيادة المغربية، إذ أصبح يؤكد على الطبيعة السياسية للحل المنشود وشروط الواقعية والبرغماتية والتوافق التي يجب أن يتحلى بها، والتي أصبحت مع مرور الوقت عناصر حاسمة وثابتة ولا رجعة فيها. (12)
والواقعية في السياسة والدبلوماسية عموما، هو نهج يركز على الاعتبارات العملية والظروف الواقعية بدلا من الالتزام بالمبادئ الأيديولوجية أو الأخلاقية، وتفترض أن الدول تسعى لتحقيق مصالحها الوطنية عبر استخدام القوة والسياسة الواقعية مع التركيز على الأمن وبقاء الدولة في النظام الدولي، وليس على القيم أو المبادئ المثالية، وهذا النهج يرى السياسة الدولية كساحة تنافس وصراع بين الدول حيث تكون المصالح والقوة هي المحرك الأساسي للقرارات السياسية.
في سياق هذا المنظور، يبدو أن تغيير لهجة الخطاب الأممي تعبير عن اعتراف ضمني من مجلس الأمن بوجاهة المقترح المغربي للحكم الذاتي كقاعدة للتسوية، بل أن أعضاء بالمجلس سواء أكانوا دائمين أو غير دائمين من القارة الأفريقية وبلدان الخليج وغيرهم عبروا عن هذا الاعتراف الصريح بالسيادة المغربية من داخل جلسات مجلس الأمن ووصفوا المبادرة المغربية بكونها 'صلبة' و'جدية' وتتطابق مع ميثاق الأمم المتحدة. (13)
هذه المواقف المتعاقبة الداعمة من داخل أروقة الأمم المتحدة، كان أمراً من الصعب تصديق حدوثه في السنوات الماضية، وهو ما يعتبر في ميزان السياسة الدولية إشارات ثقيلة في اتجاه الزحزحة المدوية للتوافق الأممي لصالح المقترح المغربي.
إن التطبيق الكامل والمجرد لمبدأ تقرير المصير خلال المراحل السابقة، خصوصا بعد مرحلة ما بعد استقلال غالبية الدول، تمخض عنه في حالات كثيرة دولا مجهرية لا تتوفر على مقومات الحياة والأمن والتنمية لمواطنيها، والأخطر من ذلك تحولت هذه الكيانات الصغيرة إلى بؤر لنشر الإرهاب وترحيله إلى الدول المجاورة لها وإلى العالم.
حل الحكم الذاتي كآلية سياسية وإدارية واقتصادية وثقافية واجتماعية، أضحى سياسة أكثر واقعية تميل إليها المنظومة الدولية خلال العقود الثلاثة الماضية، في مواجهة ومنع كل تفكك أو انفصال ناتج عن الصراعات الداخلية التي تواجهها غالبا مختلف الدول، وقد ظهر ذلك بجلاء على صعيد التوجه العام في الأمم المتحدة، بحيث أن مجموعة العمل الخاصة بالأقليات ولجنة ترقية حقوق الإنسان التابعة لها، كانت قد توصلت منذ سنة 1995 إلى فك ألغاز فشل الأمم المتحدة في تطبيق مبدأ تقرير المصير في عدة نزاعات إقليمية بما في ذلك النزاع حول الصحراء المغربية. من خلال قناعة بأن تطبيق مبدأ تقرير المصير المؤدي للاستقلال غير ممكن، ويستحيل تطبيقه عبر تنظيم استفتاء، ومن الأجدر البحث عن حل وسط من خلاله يصبح شكل تقرير المصير مرادفا للديمقراطية التشاركية التي تضمن متلازمة لا غالب ولا مغلوب في حسابات جميع الأطراف المعنية، حفاظاً على وحدة الدولة وخصوصيات الكيانات الصغيرة وضمانا لاستقرار الدول والشعوب.
مسودة المشروع المغربي حول الحكم الذاتي ، جاءت في جوهرها أكثر عمقا وإغناء لمشروع اتفاق – الإطار الذي سبق وإن اقترحه الوسيط الأممي جيمس بيكر على الأطراف منذ سنة 2001، سواء تعلق الأمر برزنامة ومضمون الصلاحيات الممنوحة لجهة الصحراء أو على مستوى هندسة وتوزيع المؤسسات التمثيلية التي ستفرز رئيس الحكومة المحلية ،كما أن المغرب أدرج مقتضيات تعتبر في الوقت الراهن أساسية، تتمثل في الضمانات المتعلقة بحقوق الإنسان وكرامة ساكنة مخيمات تندوف عند عودتهم إلى المملكة ، وذلك بإصدار عفو شامل بالإضافة الى الالتزام بإخضاع هذا المشروع المقترح لموافقة ديمقراطية حقيقية من خلال استشارة استفتائية على الساكنة المعنية طبقاً لمبدأ تقرير المصير ولأحكام ميثاق الأمم المتحدة. (14)
لاشك بأن إرادة المملكة في إيجاد التسوية النهائية لهذا النزاع، هي التي كانت وراء تقديم هذا المشروع الذي يتجاوز إطار جهوية إدارية، نحو ولادة حقيقية في مرحلة انتقالية لجهات مستقلة من خلال نظام الجهوية السياسية الحالي، والذي سيسمح لساكنة الأقاليم الجنوبية فيما بعد بالولوج إلى نظام حكم ذاتي بسلاسة. (15)
فلا جدال بأن الجهوية المتقدمة أصبحت مسارا مبتكرا، وبالتأكيد منحت للدولة المركزية بالمغرب فرصة سانحة للتعاطي مع الوضعية الجديدة من خلال إنعاش التنمية المحلية بكل تجلياتها الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، بل وسمحت بشكل كبير للقرار المركزي بإعادة ترتيب الأدوار مع الفاعلين الجهويين والمحليين من خلال منح الصلاحيات المخولة لهم، وفقاً للاتمركز جديد يراعي الخصوصية بهدف تحقيق التنمية للساكنة المحلية بمباشرة تدبير موارد وشؤون الجهة حسب سلم أولوياتهم (16)
لقد أبان المغرب خلال العقدين الماضيين، التزاما بتحسين الظروف المعيشية للسكان المحليين ، من خلال استثمارات متعددة في مجالات التعليم والصحة والبنية التحتية والطاقات المتجددة… وهو ما عزز بقدر كبير مصداقية المبادرة المغربية للحكم الذاتي ، كأرضية لحل سياسي وتنموي لهذا النزاع الإقليمي.
النموذج التنموي الجديد للأقاليم الجنوبية والذي أعطى جلالة الملك انطلاقته من مدينة العيون في الذكرى الأربعين للمسيرة الخضراء نوفمبر سنة 2015، كرس توجها ملكيا لا يمكن بأي حال من الأحوال اختزاله في سياسات قطاعية محدودة لتلبية احتياجات ومتطلبات آنية في مسلسل تنمية هذه الأقاليم، فهو فلسفة لمشروع مجتمعي يسعى لوضع مرتكزات جديدة لسياسة تنموية مندمجة على أرض الواقع، تراهن على جلب مزيد من الاستثمارات الأجنبية وتحقيق التنافسية والاكتفاء الذاتي، مما سيرفع من منسوب الجاهزية لاستشراف المستقبل السياسي لهذه الأقاليم عند تنزيل خطة الحكم الذاتي المقترحة.
كما أن إطلاق جلالة الملك للمبادرة الأطلسية المغربية لولوج دول الساحل في نوفمبر سنة 2023، جاء استكمالاً لهذا التوجه الاستراتيجي لمستقبل الأقاليم الجنوبية، إذ بفضل إنجاز أغلب مشاريع البنية التحتية للنموذج التنموي الجديد للأقاليم الجنوبية أصبح معه ترسيخ واقعية وآفاق نجاح المبادرة متوقعا بشكل كبير. (17)
الترابط بين خطاب دبلوماسي أكثر نضجا من حيث التعاطي الإيجابي مع التطورات المتلاحقة، والتي أفرزت سقف التنازلات الممكنة، في اعتبار المبادرة المغربية كنقطة وصول لاستئناف أي تفاوض أو بحث عن تسوية. وتفادي سيناريو يقود إلى تكرار انحراف هذا المسار، مع هذا البعد الاستراتيجي التنموي هو الذي أقحم الأقاليم الجنوبية في دينامية الشراكة والتعاون الدولي على أساس منطق رابح-رابح وهو ما رسخ هذه الواقعية لمبادرة الحكم الذاتي المغربية.
والواقع، فإن تطبيق هذه الجهوية المتقدمة كان وراء الرغبة في ترجمة مدخل ملائم ومنصة فعالة خصوصا بالأقاليم الجنوبية لتفعيل أي مشروع للحكم الذاتي الترابي المنبثق عن توافق في أي تفاوض مستقبلي.
وإذ ما فتأت الدبلوماسية الملكية في إطار سياسة اليد الممدودة للأطراف الأخرى، تأكد على استعداد المغرب الكامل للانخراط في مفاوضات جدية وبناءة بروح التوافق، والعمل لبناء مناخ الثقة الملائم لإيجاد مخرج إيجابي لهذا المسار، فإنها بذلك واعية بأن مشروع الحكم الذاتي المقترح يستجيب لتطلعات ساكنة هذه الأقاليم في التعبير وتدبير شؤونهم بكل حرية وديمقراطية، في تجاوب تام مع مبدأ تقرير المصير.
ومن الواضح، بأن القانون الدولي أصبح أكثر تقبلا في الوقت الحالي لأشكال تقرير المصير الداخلي الديمقراطي، فعلى سبيل المثال كان إعلان الأمم المتحدة بشأن حقوق الأقليات الذي اعتمدته الجمعية العامة في سبتمبر 2007 قد وضع وسائل وقائية لحماية هؤلاء السكان في المناطق التي يتعرضون فيها لتهديد هويتهم أو للتدهور الثقافي، ليس فقط بطرح حق تقرير مصير مبالغ في تجرده وطموحاته، بل أيضا باعتماد مجموعة من الحقوق الملموسة تسمح لهذه الجماعات بممارسة قدر أوسع من حق تقرير المصير الداخلي ببعديه الديمقراطي والتفويضي (18).إذ أن هذا الإعلان، ينص على أن للسكان المعنيين، جماعات وأفراد الحق في التمتع الكامل بكافة حقوق الإنسان والحريات الأساسية المعترف بها في ميثاق الأمم المتحدة، والإعلان العالمي لحقوق الإنسان وسائر القوانين الدولية لحقوق الإنسان، جاء مستوعبا لمختلف الحقوق السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية.
هكذا يمكن أن يشكل الحكم الذاتي إطارا قانونياً فعالاً ووسيلة مفيدة لتدبير وتسوية هذا النزاع المفتعل الذي يمكن أن ينشأ عن المشاركة السياسية، لأنه يمنح كل مكونات المجتمع حق السيطرة على مجالهم من دون اللجوء إلى الانفصال الداخلي، وتنظيم تقاسم السلطة فيما بينها ضمن إطار العيش المشترك، والحفاظ على وحدة الدولة، وهو ما حدا بهذا المشروع تجنب الدخول في تفاصيل عن محددات الحكم الذاتي ، وذلك بالاكتفاء بعرض توجهاته العامة، مشيرا وبشكل لافت ضمن فقراته إلى التفاوض وهو ما يستشف من خلال بسط جزء كبير من تفاصيله للحوار.
ومعلوم، أن المعركة الحالية لم تعد بالأساس قانونية أو تاريخية فقط، رغم أن الصراع لا زال يدور في ظاهره على المسرح الدولي، وبالتحديد داخل أروقة الأمم المتحدة. وهو الأمر الذي خلصت إليه تقارير أكبر مجموعات ومراكز التفكير العالمية think thank عند استشراف مسارات التسوية الممكنة.
فالقانون الدولي، لا يتوفر على أجوبة واضحة لوصفة أو نموذج معين لنظام حكم ذاتي قائم لحل النزاعات الديمقراطية داخل الدول، مما يجعل موضوعه شائكا، فبعض فقهاء القانون وعلماء السياسة يعتقدون أن وثيقة كوبنهاجن الصادرة عن مؤتمر البعد الإنساني الذي نظمته منظمة الأمن والتعاون بأوروبا ( Osce (سنة 1990 تضمنت صراحة بأن الحكم الذاتي يمكن أن يشكل أحد الوسائل للاعتراف بالحقوق الديمقراطية، ورغم أن الوثيقة غير ملزمة فإن أغلبية المهتمين بالموضوع يتفقون أنه لأول مرة يتم الربط بين الديمقراطية والحكم الذاتي (19).
المرجح إذن، أن إدارة المفاوضات المقبلة ستكون مرهونة بهذه المحددات التي غابت خلال جولات التفاوض السابقة في معظم العواصم العالمية، سواء من حيث السياق والنوعية والعلاقة القائمة بين الأطراف.
الدينامية الجديدة كما أشار إلى ذلك الوسيط الأممي ستيفان دي ميستورا في إحاطته الأخيرة أمام أعضاء مجلس الأمن، تعود إلى الموقف المتجدد للولايات المتحدة الأمريكية من هذا النزاع، ومن غير المستبعد أن هذه الإدارة الأمريكية لديها هذه المرة مقاربة ضغط سياسي غير مباشر، ستحاول من خلال ذلك واشنطن اختبار توازنات النفوذ والخيارات الممكنة للتقارب على قاعدة واقعية جديدة، كان مستشار الرئيس الأمريكي الحالي مسعد بولس إلى شمال أفريقيا قد عبر عنها ، و هو يستعد للقاء الأطراف المعنية في المغرب والجزائر، وقبل ذلك كاتب الدولة الأمريكي في الخارجية ماركو روبيو الذي ركز على الدفع الأمريكي باتجاه ضرورة إيجاد حل مقبول من أطراف النزاع، في إشارة إلى انخرط واشنطن لتسريع وثيرة العمل على إيجاد حل في أقرب وقت.
وفي غياب أي استراتيجية تفاوضية واضحة لحد الساعة لهذه الإدارة، فإن التقائية المواقف المعبر عنها بين الرباط وواشنطن لم يعد يلفها الغموض، سواء من خلال المسؤولة الرفيعة الأمريكية بوزارة الخارجية الأمريكية ليزا كينا حين أبلغت ستيفان دي ميستورا موقف الولايات المتحدة الأمريكية الواضح بخصوص دعمها لمقترح الحكم الذاتي تحت السيادة المغربية، وتأكيدها على جلوس الأطراف إلى طاولة المفاوضات في أقرب وقت للتفاوض على نتيجة مقبولة في سياق هذه المبادرة، أو من خلال الموقف المتطابق للمملكة إلى حد كبير معه في البلاغ الذي كان قد صدر عن الخارجية المغربية، عقب اللقاء الذي جمع بين وزير الخارجية المغربي ناصر بوريطة والمبعوث الشخصي للأمين العام للأمم المتحدة حول الصحراء ستيفان دي ميستورا أبريل من السنة الماضية، والذي حدد هذا الموقف الرسمي من عملية التفاوض التي يجب أن لا تخرج عن اللآت الثلاثة :'لا عملية سياسية خارج إطار الموائد المستديرة التي حددتها الأمم المتحدة بمشاركة كاملة من الجزائر، ولا حل خارج إطار مبادرة الحكم الذاتي، ولا عملية سياسية جدية في وقت ينتهك وقف إطلاق النار يومياً من قبل ميليشيات البوليساريو'.
معضلة إيجاد طرق كفيلة لاستئناف عملية التفاوض، كانت وراء منح دعم كامل من مجلس الأمن للأمين العام للأمم المتحدة ومبعوثه الشخصي، لتسهيل إعادة إحياء المسار التفاوضي، بالتأسيس على التقدم الذي كان قد أحرزه الوسيط الأممي السابق هورست كولر، والترحيب الذي حظيت به آنذاك الموائد المستديرة التي نظمت بجنيف في سنتي 2018 و 2019. (20)
إن ما يلوح في الأفق القريب، بأن المساعي التي تقودها الولايات المتحدة الأمريكية تحت غطاء أممي، ستقوم على نهج التفاوض المربح لجميع الأطراف، يبدأ بالسعي لإيجاد السبل الكفيلة بتحقيق الحد الأدنى من استمرار الحوار، الذي ستشرف الإدارة الأمريكية الحالية من خلاله على تقريب وجهات النظر بين المغرب والجزائر، مما يخفي وراءه رسائل غير مباشرة ،مفادها أن واشنطن لا ترغب في مزيد من التصعيد في المنطقة، لكنها لا تنوي التراجع عن خياراتها الاستراتيجية السابقة لصالح المبادرة المغربية للحكم الذاتي. وربما تكون المفاوضات هذه المرة مقدمة لإعادة هندسة العلاقة المغربية الجزائرية بمنظور أمريكي جديد، يقوم على الدمج الاقتصادي والتنمية العابرة للحدود والانخراط البراغماتي في تسويات سياسية واقعية. (21)
خاتمة :
إن البحث عن حل متوافق بشأنه للنزاع المفتعل حول الصحراء المغربية بعد التخلي عن مخططات التسوية البائدة من طرف الأمم المتحدة، هو الذي فسح المجال بشكل كبير لإعادة تشكيل التوازنات الإقليمية والدولية التي تدعم السيادة المغربية على الأقاليم الجنوبية للمملكة، هذه الأخيرة أصبحت بفضل دبلوماسية ملكية متبصرة محور استراتيجي لتعزيز مقاربة التعاون والاستقرار بمنطق رابح-رابح في محيط إقليمي مضطرب يهدد السلم والأمن الدوليين.
خلال العشرية الأخيرة، فإن قرارات مجلس الأمن المتعاقبة كرست البحث عن التوافق بدل فرض الحلول الأحادية، مما يؤشر على تجاوز كل مقترحات التسوية السياسية نحو معادلة جديدة تنبني على المزج بين القانون الدولي والواقعية السياسية. (22)
بات من الواضح بأن مبادرة الحكم الذاتي التي تقدم بها المغرب لمنح الأقاليم الجنوبية حكماً ذاتياً تحت السيادة المغربية، جاءت برؤية استشرافية لهذه التوازنات الإقليمية والدولية، التي تعرف دينامية كبيرة يطبعها التنافس حول مناطق النفوذ وتقاطع المصالح، وذلك بفضل نهج دبلوماسية التغيير، التي تستند إلى فهم عميق للتحديات التي تواجه المغرب، وإلى إرادة صلبة لتجاوزها كما عبر عن ذلك جلالة الملك في أكثر من مناسبة، مما أثمر عن تحقيق المكاسب الدبلوماسية و التي توجت بهذا الإجماع الدولي حول المبادرة المغربية.(23)
المغرب لم يتجاوز فقط الانحرافات التي كانت سبب ديمومة هذا النزاع المفتعل لخمسة عقود، بل أن الموقع الدبلوماسي المريح حالياً سمح له باختراق واسع على عدة أصعدة، بما في ذلك معاقل دعم أطروحة الانفصال في المعسكرين الأنجلوسكسونية بإفريقيا أو الدول الإسكندنافية بأوروبا على سبيل المثال.
حالة الجمود وأحياناً العرقلة في مسار التسوية الأممي بسبب تشبت الأطراف الأخرى بخيارات تقليدية غير قابلة للتطبيق من جهة، والتي لم تعد تتجاوب مع المتغيرات الراهنة في سعي المنتظم الدولي للحلول التوفيقية للنزاعات الإقليمية من جهة أخرى، ناهيك عن جدوى دبلوماسية الحزم التي نهجها المغرب في الآونة الأخيرة، كل ذلك عجل بانخراط علني غير مسبوق للقوى العظمى الفاعلة في المسرح الأممي والعالمي، بما في ذلك الولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا وإسبانيا.. في دعم المبادرة المغربية للحكم الذاتي، هذا الدعم الدولي ستكون له تداعياته لا محالة على طبيعة وشكل الحل النهائي لهذا النزاع.
لقد كسب المغرب معركة السيادة الفعلية على الأقاليم الجنوبية عبر رهان الواقعية أولا، من خلال استراتيجية تنموية عابرة للحدود تتجاوز تلبية احتياجات محلية نحو ما هو إقليمي وقاري (النموذج التنموي الجديد للأقاليم الجنوبية، خط الغاز نيجيريا المغرب، المبادرة الأطلسية المغربية لولوج دول الساحل) مما يعني استحضار الأبعاد الجيوسياسية بكل تجلياتها، وثانياً تكثيف الشراكات الاستراتيجية على قاعدة رابح رابح جعلت منه فاعلاً في القرار الإقليمي والقاري وما لذلك من تأثير على السياسة الدولية عموماً.
تقوية الموقع التفاوضي للمملكة، يتزامن مع رغبة الإدارة الأمريكية الجديدة في حسم هذا النزاع في أقرب آجال، وهذا الاهتمام الأمريكي سيكون له تأثير في تحريك المياه الراكدة لهذا الملف، خصوصا اذا ما استحضرنا بأن المسعى الحالي لهذه الإدارة هو الإشراف على استئناف المفاوضات، مع الدفع بدور الوساطة تحت المظلة الأممية ،على أساس المبادرة المغربية للحكم الذاتي كإطار وحيد لأي تفاوض .
الإحالات :
1-معهد الولايات المتحدة للسلام: من المرجح أن يحسم النزاع في الصحراء الغربية لصالح المغرب، جريدة القدس العربي 6 أغسطس 2024. http //www.alquds.co.uk
2-'قاعدة على الأطلسي ' جبهة جديدة في التوتر بين واشنطن وبكين، موقع الحرة، 10 فبراير 2024.
https://www. alhurra. com
3- 'إسبانيا قلقة من إقدام بايدن على نقل قاعدة عسكرية إلى الجنوب المغربي ' موقع i24news، 30 يونيو 2021. https://www. Ié’news.tv
4-محمد زكريا أبو فضل،' الساحل الأفريقي وصراع القوى الدولية :الدوافع والمالات، موقع افروبوليسي، يناير 2024. https: // afropolicy. com
5-اسية البشارة 'المغرب في عمق الساحل الأفريقي.. شراكة تكسر عزلة الدول وتعزز نفوذه، قناة ومنصة المشهد، 29 أبريل 2025. https://almashad. com
6-القدس العربي، جون افريك :هل يكون الساحل منطقة مواجهة جديدة بين المغرب والجزائر؟ يناير 2025. https://www. alquds. Co. uk
7-حسين معلوم، دوافع التوجه الإيراني.. إلى الساحل الأفريقي، أصوات اونلاين، 21ماي 2025.
. https://www.aswatonline.com
8-المغرب يعزز دوره القيادي في الإتحاد الأفريقي خلال قمة فبراير 2020, وكالة بغداد اليوم الإخبارية. https://baghdadtoday. news
9-Ricardo fabiani, Algeria and Morocco in africa :between normal compétition and- diplomatic escalation, IEmed, 2024. https://www. iemed. org.
https://www. iemed. org.
10-محمد الخمسي، الصين والمغرب :شراكة استراتيجية متوازنة، التحدي 26نوفمبر 2024. https://attahadi.ma
11-المغرب – روسيا :تعزيز الشراكة الاستراتيجية، موقع وزارة الشؤون الخارجية والتعاون الأفريقي والمغاربة المقيمين بالخارج، الأربعاء 02 دجنبر 2020. diplomatie. ma, https://diplomatie. ma
12 -Nation unies (2021, 29 octobre) résolution 2602 (2021) adoptée par le conseil de- sécurité à sa 8881e séance. https://un docs. org /fr/s/RES /2602.
(2021), nations unies. (2022, 27 octobre)
Résolution 2654 (2022) adoptée par le conseil de sécurité à sa 9169e séance. https://Un-Docs. Org /fr/s/RES /2654 (2022) nations-unies. (2023, 30 octobre) résolution 2703 (2023) adoptée par le conseil de sécurité à sa 9432e séance, https://un docs. Org /fr /s /RES /2703 (2023).
Nation unies (2022, 27 octobre) sahara occidental, conseil de sécurité proroge jusqu’au 31 octobre 2023 le mandat de la minurso(Cs/15081)
-13-couverture des réunions et communiqués de presse. https://press. Un.org/fr/2024 /cs 15081. doc. htm.
14-رسالة المغرب المتضمنة في الوثيقة s/2007 /206 بتاريخ 3 أبريل 2007.
15 -Blanc François – Paul, la constitution de 2011 et l’initiative marocaine pour la- négociation d’un statut d’autonomie de la région du Sahara, annuaire marocain de la stratégie et les relations internationales tome 1,editions l’harmattan, Paris, 2012, p332.
-16 -Elcadi latifa, la politique de régionalisation au Maroc, ALMANARA, Revue scientifique trimestrielle spécialisée dans les études juridiques et administratives, numéro 7,septembre 2014, p, 13.
17-عمر الكتاني 'الطريق إلى الأطلسي ' مبادرة مغربية بين يدي دول الساحل (تقرير) جريدة القدس العربي يناير 2024. Https : //www.alquds.Co.uk
18- سعيد الصديقي، من تقرير المصير الخارجي إلى تقرير المصير الداخلي، موقع هيسبريس الإلكترونية، الخميس 26 أكتوبر 2017https://www.hespress.com
19-عبد اللطيف وهبي بين الانفصال وتقرير المصير هسبريس 14 أكتوبر 2024. https://www.hespress.com
20 -Mohammed loulichki, cap sur l’autonomie pour le sahara, une dynamique En- marche, policy centre, for the New south, avril 2025, pp-12/25
21-Rida lyammouri et Dr. Fadoua ammari,' sahara marocain : le consensus international autour du plan d’autonomie peut-il enclencher une nouvelle dynamique onusienne ?' Policy center for the New south, PB-28/25,avril 2025.
22-Said saddiki, 'l’évolution du concept d’autodetermination dans le droit international contemporain' in le differand saharien devant l’organisation des nations unies, sous-direction du centre d’études internationales (Paris, karthala, 2011), pp, 97-113.
-23خطاب جلالة الملك محمد السادس نصره الله بمناسبة الذكرى السابعة والثلاثين للمسيرة الخضراء، الثلاثاء 6 نونبر 2012.
المراجع :
* أمينة المسعودي 'مشروع الحكم الذاتي المغربي :الحل الأنجع لقضية الصحراء' دار أبي رقراق للطباعة والنشر، الطبعة الثالثة 2023.