اخبار المغرب
موقع كل يوم -اندبندنت عربية
نشر بتاريخ: ١٥ نيسان ٢٠٢٥
إرساء جسور التعاون في مجالات الهيدروغرافيا وعلم المحيطات
يتيح الاتفاق الموقع أخيراً بين المغرب وفرنسا، والذي وصف بكونه 'تاريخياً' لفرنسا نقل مسؤولية وضع ونشر الخرائط البحرية كافة التي تغطي المياه الخاضعة للولاية القانونية المغربية إلى المملكة بعدما كانت الهيمنة التقنية والعسكرية على المجال البحري المغربي لباريس.
ويرى مراقبون أن نقل إعداد وتوزيع الخرائط البحرية من فرنسا إلى المغرب ليس تحولاً إدارياً فحسب، بل يجسد إعادة ترسيم فعلي لمفهوم السيادة، باعتبار أن خرائط البحر تعد أدوات سيطرة جيو-استراتيجية تتعلق بممرات الطاقة ومواقع التنقيب ومناطق النفوذ الجيو-اقتصادي.
ملامح الاتفاق 'التاريخي'
أبرمت إدارة الدفاع الوطني المغربة قبل أيام اتفاقاً مع وفد عسكري ودبلوماسي فرنسي رفيع المستوى يروم إلى دعم خبرة البحرية العسكرية المغربية، فضلاً عن إرساء جسور التعاون في مجالات الهيدروغرافيا وعلم المحيطات والخرائطية البحرية.
وتنتقل إثر هذا الاتفاق الجديد بين الرباط وباريس بصورة رسمية وفورية مسؤولية إعداد وإنجاز ونشر جميع الخرائط البحرية التي تهم المياه الخاضعة لقوانين المملكة إلى الجانب المغربي.
وأورد بلاغ لإدارة الدفاع المغربي أن الاتفاق يظهر التزام البلدين المشترك من أجل تعاون قائم على تبادل الخبرات، والتعزيز المتبادل للقدرات التقنية والعملياتية، لا سيما في مجال الخرائطية البحرية الضروري لاستتباب الأمن البحري.
اتفاق الشراكة الموقع بين المغرب وفرنسا يحول بذلك مسؤولية إنتاج وتوزيع الخرائط البحرية للمياه المغربية من المؤسسة الوطنية الفرنسية للهيدروغرافيا والأوقيانوغرافيا (SHOM) إلى قسم الهيدروغرافيا والمحيطات والخرائط (DHOC) التابع للبحرية الملكية المغربية.
وShom هي المؤسسة الرسمية في فرنسا المسؤولة عن الهيدروغرافيا، من قبيل رسم خرائط البحار والمحيطات، وعن الأوقيانوغرافيا (دراسة المحيطات)، وتعد جزءاً من وزارة الجيوش الفرنسية.
ومن مهام هذه المؤسسة، التي تقع في مدينة بريست الفرنسية، رسم الخرائط البحرية وإنتاج الخرائط البحرية الرسمية للسفن التجارية والعسكرية وقياس الأعماق والتيارات والمد والجزر، بهدف جعل الملاحة أكثر أماناً، كما تقوم بخدمات عسكرية دفاعية من خلال دعم البحرية الفرنسية ببيانات ملاحية دقيقة.
تعزيز الأمن البحري
يقول بوسلهام عيسات، باحث في الدراسات السياسية والدولية مهتم بالقانون الدولي للبحار إن توقيع اتفاق نقل مسؤولية إنتاج ونشر الخرائط البحرية من المؤسسة الفرنسية المتخصصة في الهيدروغرافيا والمحيطات إلى قسم الهيدروغرافيا والخرائط التابع للبحرية الملكية المغربية، يأتي في إطار التوجهات البحرية الجديدة للمملكة المغربية الرامية إلى تسخير البحث العلمي البحري وجعله مرتكزاً أساساً لتعزيز فهم البحار والمحيطات.
ولفت عيسات إلى مواصلة إعداد الخرائط البحرية، ولا سيما المياه الإقليمية وجميع المناطق الخاضعة للولاية البحرية الوطنية من كاب سبارطيل إلى السعيدية بالبحر الأبيض المتوسط، وكاب سبارطيل نحو الكويرة بالصحراء المغربية على مستوى المحيط الأطلسي.
واستطرد الباحث عينه بأن هذا الاتفاق القاضي بإعداد الخرائط من قبل الجانب الفرنسي وقع عام 2008، أي بعد مرور عام من مصادقة المملكة المغربية على اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار، وأنه 'اليوم مع نقل الخرائط البحرية التي جرى إعدادها للبحرية الملكية المغربية، نفهم أن هذه المرحلة الأولية كانت فرصة من أجل تأهيل الموارد البشرية والأطر المتخصصة سيما أننا أمام مجال علمي دقيق'.
وأكمل عيسات بأن نقل مسؤولية إنتاج الخرائط البحرية يعني أن مفتشية البحرية الملكية في إطار السيادة المغربية ستقوم بمختلف العمليات التي من شأنها تسهيل معرفة البيئة الهيدروغرافية وبيئة المحيطات من أجل تحقيق متطلبات سلامة الملاحة البحرية، مع مواصلة إعداد وتحيين الخرائط البحرية ووثائق الملاحة البحرية في المياه الخاضعة للولاية الوطنية بالبحر الأبيض المتوسط والمحيط الأطلسي.
وذهب المتحدث إلى أنه يفهم من هذا الانتقال أننا أمام تصور جديد يرمي إلى النهوض بالاستراتيجية البحرية للمملكة المغربية الرامية إلى النهوض بالسياسات البحرية بصفة عامة، كذلك الفضاء البحري الأطلسي وجعله فضاءً مشتركاً للتكامل الاقتصادي والازدهار، مع مواصلة جهودها الحثيثة الرامية إلى تعزيز الأمن البحري الأطلسي بصفة خاصة.
إعادة ترسيم السيادة
من جهته يعلق الباحث في الشأن الاستراتيجي والدولي مولاي هشام معتضد، على الموضوع بالقول إن 'هذا الاتفاق لحظة سيادية بامتياز. فطوال عقود كانت الهيمنة التقنية والعسكرية لفرنسا على المجال البحري المغربي تجسد امتداداً ناعماً لعلاقات ما بعد الاستعمار، وبنقل إعداد وتوزيع الخرائط البحرية إلى المغرب سيصبح المجال البحري المغربي خاضعاً حصراً لرؤية وطنية مستقلة'.
وأوضح معتضد أن 'الاتفاق إعلان ضمني بأن المغرب لم يعد يقبل بتمديد أي صورة من صور التبعية التقنية، حتى لو كانت في ظاهرها علمية أو مهنية'، مبرزاً أن هذا التحول يندرج في إطار أوسع لسياسات السيادة الرقمية والمعلوماتية التي تنتهجها الرباط بصورة متسارعة، فخرائط البحر ليست فقط أدوات للملاحة أو السلامة البحرية، بل هي أيضاً أدوات سيطرة جيو-استراتيجية تتعلق بممرات الطاقة ومواقع التنقيب ومناطق النفوذ الجيو-اقتصادي.
وأكمل المحلل ذاته بأنه 'لا يمكن فهم هذا التطور من دون استحضار التحولات في العلاقات المغربية – الفرنسية، فباريس تدرك أن الزمن السياسي والدبلوماسي الجديد في شمال أفريقيا يفرض ديناميات جديدة، وأن الحفاظ على الشراكة الاستراتيجية يقتضي التنازل عن بعض امتيازات 'الوصاية التقنية' التاريخية.
واستطرد معتضد بأن 'هذا القرار، وإن بدا تنازلاً، فهو في العمق تموضع فرنسي جديد يهدف إلى الحفاظ على قنوات النفوذ من دون الظهور كقوة مهيمنة، وهو نهج يتماشى مع التحولات في الفكر الاستراتيجي الفرنسي منذ تقرير وزير الخارجية الفرنسي السابق جون إيف لودريان حول إعادة تأسيس العلاقات مع الجنوب.
توازنات القوى في المتوسط
ولفت معتضد إلى أنه 'في سياق نزاع الصحراء، تمنح هذه الخطوة الرباط دفعة دبلوماسية إضافية، فإذا كانت بعض القوى الإقليمية تطعن في حدود السيادة البحرية المغربية جنوباً، فإن تولي المغرب إنتاج خرائطه الخاصة يشكل عنصراً مادياً ذا قوة قانونية في المحافل الدولية'. وتابع أنه 'من الناحية الرمزية، فإن الخرائط التي ترسم بأيدٍ مغربية، وتحمل ختماً مغربياً، وتوزع عبر قنوات مغربية، تحمل في طياتها بعداً تأكيدياً على وحدة التراب والسيادة الكاملة على المجالات البرية والبحرية'.
وشدد الباحث على أنه 'يجب ألا نحصر هذا الاتفاق في ثنائية المغرب وفرنسا، بل في سياق أشمل يتعلق بتوازنات القوى في غرب البحر الأبيض المتوسط'، موضحاً أن 'المغرب يسعى إلى ترسيخ دوره كقوة بحرية صاعدة، سواء عبر موانئه الكبرى أو من خلال تحركاته في أفريقيا الغربية.
واسترسل معتضد أن 'تحكم المغرب في الخرائط البحرية يعزز قدرة المملكة على التفاوض من موقع قوة في شأن ممرات الشحن والتعاون الأمني البحري، وحتى في ملفات الهجرة والطاقة المتجددة في السواحل الأطلسي'.
ومضى معتضد قائلاً إن 'هذا الاتفاق يعكس تحولاً عميقاً في الذهنية الاستراتيجية المغربية، فالمغرب لم يعد يطلب من الحلفاء تقديم الخدمات نيابة عنه، بل يسعى إلى امتلاك أدواته بنفسه'، مردفاً أن 'هذا التوجه ينسجم مع العقيدة السيادية التي تطبع السياسة الخارجية المغربية في الأعوام الأخيرة، من اعترافات الدول الكبرى بمغربية الصحراء إلى مبادرات الرباط في القارة الأفريقية، بالتالي تصب كل هذه العناصر في بناء مفهوم جديد للسيادة المغربية: سيادة ناعمة وذكية، وذات أبعاد استراتيجية متشابكة'.