اخبار المغرب
موقع كل يوم -الأيام ٢٤
نشر بتاريخ: ١٣ تموز ٢٠٢٥
في مساء دافئ من ليالي الرباط، انفتحت ساحة باب الحد على مصراعيها لاستقبال عشاق الحكاية، أولئك الذين جاؤوا من مدن المغرب وقراه، ومن بلدان بعيدة تحمل أسماء أنهار وغابات وسهول لا تنام. في قلب العاصمة وباقي مدن الجهة، تحولت الساحة إلى فضاء أسطوري، حيث تختلط أصوات 'الحلايقية' بنغمات الطبول والدفوف، وتتناثر الكلمات في الهواء كأنها خيوط ضوء تحيك ذاكرة الشعوب.
منذ اليوم الأول، حملت منصات المهرجان روحا مغايرة. لم تكن دروسا أكاديمية جافة، بل لقاءات حميمية بين الحكماء والرواة الشباب. في زاوية من الخزانة العلمية بجامعة محمد الخامس، جلس عشرات الطلبة في حلقة دائرية، يحدّقون في وجه حكاء من بنما وهو يعيد سرد أسطورة الممر البحري كما رواها أجداده بلغة شعبية ممزوجة بالإيماء والإيقاع. وإلى جانبه، كانت أمازيغية مغربية تسرد حكاية 'تيسليت وإيسلي' بصوت مبلل بالحزن، كأنها تقطر من جبل.
الورشات لم تكن فقط عن تقنيات السرد، بل كانت مساحة لتفكيك العلاقة بين الحكاية والماء. كيف يتحول نبع صغير إلى أسطورة؟ كيف تروي الحكاية نضال الإنسان من أجل البقاء، أو مقاومته للجفاف والقهر؟ أطر الورشات متخصصون في الأنثروبولوجيا، وكتاب، ومسرحيون، جميعهم اتفقوا على شيء واحد: 'الحكاية ماء يروي الذاكرة، ويحملها من جيل إلى جيل'.
وفي باحة المسرح الوطني محمد الخامس، انطلقت الأمسيات الحكائية الكبرى لمهرجان مغرب الحكايات. أضواء خافتة، موسيقى حية، وراو يقف وحيدا في المركز، يحيط به جمهور من كل الأعمار. من بنغلاديش إلى البرازيل، ومن أطلس المغرب إلى نيبال، تناوب الرواة على المنصة كأنهم سفراء لعالم قديم، جاءوا يهمسون بأسرار الزمان. هناك من روى قصة 'إله المطر' في الغانج، وآخر تحدث عن امرأة حولت دموعها إلى نهر، وثالث سرد ملحمة صياد يغامر بحياته لاستعادة قطرة ماء مقدسة.
المائدة المستديرة الدولية لم تكن أقل شاعرية. 'الماء في المتخيل الإنساني' كان عنوانها، لكن ما قُدِّم خلالها تجاوز التحليل النظري. تحدث فيها أكاديميون ومفكرون من إفريقيا وأمريكا اللاتينية وأوروبا عن رمزية الماء في الديانات والأساطير، وعن كيف استُخدم كوسيلة للهيمنة أو للتحرر. وجاء تدخل السوسيولوجية المغربية الشابة ليضيء جانبا خفيا: كيف غابت الحكايات عن المدارس، وكيف يمكن إعادتها كمصدر تربوي.
في إحدى الورشات المسائية، اجتمع أطفال من أحياء الرباط مع رسامين وموسيقيين، لابتكار 'حكاية مرسومة'. كل طفل رسم جزءا من القصة، فيما تحولت الورقة إلى نهر صغير يعبر مدنا من الورق، تسكنها شخصيات من الخيال الشعبي. ضحكاتهم ملأت المكان، وكأن الحكاية لم تعد حكرا على الكبار.
التكريمات أيضا كانت فريدة. 'الكراب'، الرجل الذي ظل لعقود يوزع الماء في الأزقة الشعبية، أصبح هذا العام رمزا للحكاية المنسية. كُرّم بزيه التقليدي، وعلّق جرّته النحاسية إلى جانبه، بينما كان يقف فخورا تحت التصفيق. كما تم الاحتفاء بالراوي الأسطوري 'ولد هنيا'، الذي قال في كلمته: 'أنا لا أحكي الحكاية، أنا أتنفسها، أعيشها، وأموت فيها كل ليلة.'
لم يكن مهرجان مغرب الحكايات مجرد برنامج ثقافي، بل رحلة بين ضفتين: ضفة الواقع وضفة الخيال. وبينهما، كان الماء، كما الحكاية، عنصرا للتأمل، للتذكر، وللسؤال: من نحن دون ذاكرة؟ وماذا تبقى منا إن لم نروِ الحكايات؟