اخبار المغرب
موقع كل يوم -الأيام ٢٤
نشر بتاريخ: ٢٨ أب ٢٠٢٥
محمد كريم بوخصاص
'أنا إيزيدي من العراق.. أنا مضطهد!'. خرجت الكلمات من فاه 'سعيد. ب' كطلقة ظل يكبتها طويلا قبل أن يُفلتها، وهو يشرع في تقديم نفسه أمام قرابة عشرين شخصا لا يعرفونه، في قاعة مُكيَّفة بأحد فنادق عمان في ماي الماضي، وقد بدا وجهه متجهما، وشفتاه تحاصران الكلمات خشية تسرب العاطفة بين حروفها. وما إن دوّى تصريحه الأول حتى التفتت رؤوس الحاضرين -رجالا ونساء من جنسيات عربية مختلفة توزعوا حول الطاولات— بما في ذلك أولئك الذين كانت أذهانهم شاردة، مثل 'محمد. ب' المغربي، الذي كانت تلك المرة الأولى التي يسمع فيها أحدهم يُعرف نفسه بأنه 'إيزيدي'.
واصل سعيد حديثه بصوت مثقل بالأسى، عارضا شيئا من تاريخ الإيزيديين، قبل أن يغوص في فظائع 'داعش' بسنجار سنة 2014.
كان معظم الحاضرين يعرفون المذابح من شريط الأخبار فحسب، لكن مرافعة الرجل انسابت ككلام محامٍ متمرس يحصي الضحايا ويقتفي العدالة المفقودة، فشدت الجميع إلى قصة شعب ما زال يبحث عن خلاصه، وإن كانوا قد احتاروا في رقم 'المليون حالة اضطهاد!' الذي ذكره 'سعيد'.
كثيرة هي حكايات الاضطهاد التي تطال الأقليات حول العالم، غير أن قلة منها تبلغ صدارة الاهتمام لافتقارها إلى مرافعين بارعين أو منابر تُسمع أنينها للعالم. هنا يبرز 'سعيد' وكأنه قرر أن يحمل هذه المهمة على عاتقه. لم يدع فرصة تمر، خلال لقاء صحافيين وأكاديميين بعمان مؤخرا، من دون أن يُعري المأساة بالأرقام والوقائع.
على الضفة الأخرى، اختار 'رافي. س' الأرمني القادم من سوريا، أن يواجه القهر بالصمت حينا وبمرح صاخب حينا آخر. يقف شامخا بين أصدقائه ويغلف جراحه بقشرة رقيقة من خفة الظل، حتى يغدو سريعا روحا لا تملها الكوميديا. وبخلاف 'سعيد'، اكتفى رافي بالتعريف عن نفسه كسوري، من دون الإشارة إلى انتمائه للأقلية الأرمينية التي ذاقت بدورها طعم الاضطهاد قبل عقود. فعل ذلك حتى وهو يستقلُّ سيارة أجرة تجوب شوارع عمان بصحبة رفاقه -يقول هؤلاء- إذ اكتفى، وهو في أرقى درجات السُّكر بالكوميديا بتكرار الجملة نفسها: 'أنا رافي من سوريا'، كأنه يلون مرارة تجربته بطبقة سميكة من البهجة.
بين حماسة سعيد وإحجام رافي وصدمة محمد كانت تُنسج حكاية عن تنوع عرقي وديني يفترض أن يكون مصدر قوة، لكنه يتحول في بلدان إلى بؤرة تشتت وفرقة واضطهاد.
الرواية أبلغ من الرقم!
التنوع هو ذروة الديمقراطية، والدول التي تنجح في تدبيره هي نفسها التي توفر الرفاه لمواطنيها، بخلاف البلدان التي مزقتها الحروب فصار الدفاع عن الاختلاف فيها ترفا مؤجلا. ولذلك ظلت ذاكرة 'محمد' يقظة، تسجل معاناة الأقليات.
كان لقاء الصحافيين والأكاديميين المتنوعين دينيا في عمان نقطة تحول كبرى في مسار 'محمد'، كما يروي بنفسه، خصوصا حين كان يلحظ صحافية عراقية من أبوين مختلفين دينيا (أحدهما شيعي والآخر سني) تهز رأسها كلما ذُكر الاضطهاد، كأنها تستعيد شريطا مألوفا؛ فما يُروى عن مآسي الأقليات كُتب بحبر ودم على جدران حارتها. أما هو -المغربي الذي لم يلتقِ يوما بإيزيدي ولا أرميني ولا كردي ولا شيعي-، فوجد نفسه أمام أطياف من التنوع لم يتخيل اجتماعها في قاعة واحدة. ففي بلاده، حيث تغلب الهوية السنية وتختبئ الفُسيفساء الدينية وراء ستار تاريخي رقيق، لا ينفلت التنوع الديني أو العرقي إلى صراع كما في المشرق، حتى أن تقرير مركز 'بيو' الأميركي لأبحاث الأديان الأخير -الصادر في دجنبر 2024- سجل تراجع العداء الاجتماعي تجاه 'الأقليات الدقيقة' في المغرب من 'معتدل' إلى 'منخفض جدا' بين عامي 2020 و2022.
لكن طمأنينة الإحصاءات لم تعد تُقنع 'محمد' كثيرا، كما يقول، بعدما أدرك في عمان أن الأرقام قد تغفل الألم إن لم يجد من يرويه، فقرر أن يصغي بتركيز إلى حكايات 'المضطهدين'، مؤمنا بأن الرواية الحية أصدق من أي مؤشر رقمي.
التنوع للبقاء!
ليس 'محمد' وحده من تلقى في عمان درسا بليغا عن ضرورة الاحتفاء بالتنوع، فكل المشاركين التصقت بهم حكايات بعضهم ببعض قبل أن يتفرقوا بين وعواصم ومدن عربية مختلفة. صار دفتر الملاحظات لديه أثقل: فالتاريخ لا يُكتب بالأرقام وحدها، بل بأصوات من عايشوه وهم يروون وجعهم بلا وسائط أو خطابات جاهزة.
أدرك 'محمد' أن مهمة الصحافي لا تقف عند نقل الخبر، بل تمتد إلى رتق الثقوب التي تخلفها الحروب في ذاكرة الجماعات الهشة، وتذكير العالم بأن التنوع ليس شعارا دعائيا، بل شرط بقاء وعدالة، والأهم من ذلك أن 'الصحافي الذي ينقل قصص الآخرين قد يصبح هو ذاته قصة تُروى'.
ولأن التنوع هو سبيل البقاء، اتفق كل الحاضرين على أن يجعلوا من اختلافهم وقودا لمشاريع مشتركة تتجاوز الحدود والجوازات. تواعدوا على أن يصير كل واحد منهم نافذة على ثقافة الآخر وشاهدا على آلامه وأحلامه.