الصوامع الافتراضية.. «صلاة من غير قِبلة»

مع انحسار التغطية الإعلامية الغربية على المجازر التي يرتكبها الكيان الصهيوني، مقابل تجنبهم كوارث الكونغو والسودان، أصبحت الهوية والثقافة الفلسطينية تُقدَّم بصورة مثالية لدى الغرب. يراد منّا استنتاج أن صلابة غزة أمام الكيان الصهيوني ملهمة إلى درجة اعتناق «الأجانب» دين الاسلام تماثلاً بغالبية الفلسطينيين.

قد يرى ازدياد اعتناق الغربيين للإسلام كظاهرة إيجابية، لكن يبقى السؤال: هل هي صحوة فردية، خدعة اعلامية، أم استقطاب منظم؟ فموجة تغيير ملحوظة بهذا الحجم في أوروبا وأمريكا لا يمكن تفسيرها بالصدفة والإلهام فحسب. قد تكون نتاج عمليات رقمية تهدف إلى تشكيل الفضول وتوجيهه نحو مسارات تخدم عملاء لجهات تسعى أولاً إلى توسيع نفوذها الإقليمي.

عندما يُسأل معتنقو الإسلام الجدد في الغرب عن سبب انجذابهم لديننا، يجيب معظمهم بأنهم وجدوا فيه غفراناً وفرصة حياة جديدة. يخفف ذلك عنهم شعورهم بخذلان العالم العربي. وكأنهم يحاولون الابتعاد عن هوياتهم الغربية المذنبة باقترابهم لهويات ضحايا قرارات سياساتهم.

أمّا حين يُطلب منهم تلاوة الفاتحة من مصاحفهم المشتراة من متاجر افتراضية مقرها الصين تكتفي بطباعة كلام الله تعالى وتغليفه، يتلعثمون ويرتبكون لعدم فهمهم العربية، دون مراعاة أحكام الطهارة ودون خشوع وانتباه. ومع ذلك، يملأون المنصات بخطابات دعوية بالانكليزية، باحثين عن أناس مثلهم يفتّشون عن سببية وجودية لينضموا إلى الاسلام عبرهم.

كيف لمن لا يزال يتعلم الاسلام، من لا يستطيع ممارسة العبادات بانتظام بعد، أن يتصدر الدعوة؟

الجماعات المتطرفة المنتشرة في محيطنا العربي، التي تُستخدم كأدوات عند الكيان الصهيوني، تمتلك سجلاً طويلاً في تجنيد أفراد من شتّى بقاع العالم. أساليبها في الاستدراج تتنوع بين الاستمالة العاطفية، التلاعب النفسي، استغلال الهويات، ووعود بالانتماء.

هذه التكتيكات تتشابه مع أساليب أجهزة الاستخبارات الصهيونية في فلسطين المحتلة، المهتمة بتغيير السرديات السياسية والتأثير في الحضارات بما يخدم التوسّع الصهيوني ومصالح استعمارية أخرى في المنطقة، حتى وإن تطلب الأمر تجنيد الغافلين واليائسين.

قضية شميمة بيغوم، الفتاة البريطانية التي جُنّدت، وهي في الخامسة عشرة، لتلتحق بنفسها بمعسكرات في سوريا، لا بد أن تبقى جرس إنذار. فما الذي يدفع مراهقة من لندن للانضمام إلى ميليشيا غير شرعية على بُعد آلاف الكيلومترات؟ كيف سمعت عنهم وممن؟ إن نفس الأدوات التي استُخدمت لتضليلها تُستعمل اليوم عبر وسائل التواصل الاجتماعي بازدياد، حيث يظهر أشخاص بملامح مألوفة وخطاب ديني معتدل، لكنهم باطنياً يروّجون لرسائل دخيلة. من قد يبدو برجلٍ عربي محافظ على الـ«تيك توك» قد يكون في الحقيقة واجهة لجهاز استخباراتي مصالحه بعيدة عن التوحيد، هدفه زرع الانقسام، تغذية الطائفية، إشعال الفتن، وتوجيه الشباب نحو صراعات داخلية تستنزفهم.

الكثير مما يطرح في الانترنت من خطاب ديني يبدو مقبولاً ومألوفاً، وهنا تكمن الخطورة، فقد تُستَغل الخطابات «المُعتدلة» كغطاء يمهّد الطريق لتمرير مزاعم متطرفة تهدد أمن المجتمع.

لا يعني ذلك أن كل شخص يخطب على المنصات الرقمية مخادع، لكن المؤكد أن ليس كل من نراه على الانترنت حقيقي.

استبدال أخذ الشهادة في برامج هاتفية غرضها الترفيه، بعادة أخذها في المسجد، لا يسهّل اعتناق الإسلام، بل يختزل الرسالة ضمن اطار يقلل من أهميتها ويسهل تزويرها والانتفاع منها مادياً.

نحن نعيش زمن تتداخل فيه الحرب الإعلامية مع الحروب الميدانية، وتُستغل فيه المنصات الرقمية كأدوات لتضليل العقول وتفكيك المجتمعات. الوعي، سلاحاً، لا يقل أهمية عن الأمن. علينا، كمسلمين وعرب، أن نتحمل مسؤولية المعرفة ونشرها، لنحمي مجتمعاتنا من الفتنة والتفرقة، قبل أن يفوت الأوان ونخسر أغلى ما لدينا: الألفة والأمان.

اللهم احفظ لنا هذا البلد آمناً يارب العالمين.

طارق الخضري