اخبار الكويت
موقع كل يوم -جريدة القبس الإلكتروني
نشر بتاريخ: ٣ أيلول ٢٠٢٥
العدالة لا تنبثق من الأماني التي تُحاك في الخواطر، ولا من الشعارات التي تُعلّق على الجدران، بل هي كيان راسخ يقوم على أنظمة وآليات دقيقة، قادرة على أن تُميز بين المختلفين وتُسوي بين المتشابهين. فإذا نحن دخلنا عالم التأمين، رأيناه مسرحاً واسعاً تتقاطع فيه مصالح الأفراد بما يحملونه من هموم يومية وأقدار غير متوقعة، وتتشابك فيه مطالب المؤسسات التي تُريد أن تحمي أصولها، ثم تمتد الخيوط لتتعانق مع مصالح السوق والدولة سواءً، في مشهد معقد ومتشابك.
وفي قلب هذا المشهد، وإلى جانب ضرورة إعلاء كفاءة شروط وثائق التأمين الإلزامية وتفعيل أثرها، تبدو آليات التسعير كالمفصل الدقيق الذي عليه تُبنى الطمأنينة، ومن دونه ينهار الجسر وتتشقق الثقة. وليس بخافٍ أن الكويت اليوم، بما تملكه من سوق تأميني متشعب، تتعامل مع طيف واسع من الوثائق التي تُمسك بخيوط الحياة الاقتصادية والاجتماعية؛ منها إلزامية وأخرى تكميلية، ومنها ما يمس كل أسرة وشارع، ومنها ما يحرس البيوت والمتاجر والمصانع من تقلبات الزمن والكوارث، ومنها ما يعيد التوازن كلما انفرط عقد العدالة بسبب خطأ أو تقصير، وآخرها ما يجعل الضمان المالي سنداً للإنسان في ضعفه.
هذه العقود جميعها ليست أوراقاً صامتة، بل هي صلات وثيقة بالحياة اليومية للناس وأعمالهم، وتحتاج في أصلها إلى تسعير لا يقوم على افتراضات أو تقديرات، بل على حقائق مرصودة، متغيّرة، تُقرأ كما تُقرأ صفحات كتاب حيّ، وتُحدّث على الدوام كما تُجدَّد الأنفاس، لتبقى مواكبة لما يطرأ من وقائع، وضامنة لأن يظل ميزان العدالة قائماً لا يميل.
من الجمود إلى المتغيرات.. وثائق التأمين الإلزامية
لقد سارت أنظمة التسعير في التأمين، زمناً طويلاً، على خطى معايير جامدة لا ترى أبعد من ظاهر الأشياء؛ كانت تُقاس الأخطار بسمات المؤمن عليه، وكأنها تكفي وحدها لرسم صورة الخطر وتقدير احتمالاته. إلا أنّ هذه المعايير، على ما قد يبدو فيها من وجاهة، لا تنفذ إلى صميم الواقع، ولا تقترب من أصل المخاطر الحقيقية. فكثيراً ما رأينا انضباطاً لا تدل عليه السمات، والعكس بالعكس.
أما التسعير الديناميكي، فهو شيء آخر تماماً، إذ لا يرضى بالظاهر ولا يقف عند حدود القشور، بل يغوص إلى أعماق السجل الفعلي الذي يحكي القصة الحقيقية للمؤمن عليه، فيقرأ ما ارتكبه من حوادث، وما سجله عليه التاريخ من مخالفات، وما أبداه من التزام أو تقصير في الاشتراطات النظامية، ويحصي حجم المطالبات التي تسبب فيها، ثم يخرج من ذلك كله بصورة ناطقة بعدالة «تكافلية» دقيقة، فيغدو القسط عندئذٍ أداة للإنصاف وردعاً؛ يكافئ الملتزم بخصومات ملموسة، ويحمّل المتهور وزر سلوكه وكلفة تهوره، فلا يستوي عندئذٍ الصالح مع الطالح، ولا يختلط الملتزم بالمستهتر.
وعليه، فإن ما لا يترك مجالاً للشك أن العدالة الحقيقية في التسعير لا يجب أن تقوم على «التحمل السابق» الذي يكتفي بالمعايير الثابتة، بل على «التحمل اللاحق» الذي يستند إلى التاريخ الفعلي للمؤمن عليه، ليكون الماضي مرآة المستقبل، ويكون الحساب مبنياً على وقائع لا على افتراضات.
«وحدة تنظيم التأمين».. إشراف على بوابة الوثائق المركزية
غير أنّ الطموح لا ينبغي أن يتوقف عند حدّ إدخال الآليات الديناميكية في معادلة القسط، بل يتسع ليبلغ أفقاً أرحب وأشمل، قوامه التسعير الديناميكي المركزي؛ تسعير لا تديره الشركات متفرقة وفق اجتهاداتها الخاصة، بل يُبنى على أنظمة رقمية موحّدة، قائمة على أسس اكتوارية وإحصائية مؤتمتة، تتولى «وحدة تنظيم التأمين» الإشراف على كيانها لتكون بمنزلة القلب النابض الذي يضخّ الحياة في شرايين السوق بأكمله. في هذا التصور، لا يقف كل طرف في جزيرة معزولة، بل تُمدّ الجسور الإلكترونية بين المؤمن لهم من الأفراد والشركات، وبين شركات التأمين التي تُصدر الوثائق وتدير المطالبات، وبين أجهزة الدولة التي تتطلب وثائق التأمين الإلزامية في تعاملاتها، والأجهزة الأخرى - الحكومية أو المرخص لها من قبل الوحدة - التي ترصد الأرقام والإحصاءات وتدون ملامح الواقع في جميع النطاقات ذات الصلة بوثائق التأمين الإلزامية. وبذلك، تصبح تلك الأنظمة هي البوابة الوحيدة لاعتماد وثائق التأمين الإلزامية في تعاملات الأفراد والشركات لدى أنظمة الجهات الحكومية كافة.
إنها شبكة مترابطة من العلاقات، تُدار جميعها بلغة تواصل واحدة، عبر واجهة برمجة تطبيقات موحدة، يمر عبرها تدفق البيانات بسلاسة لا تعرف الانقطاع، فلا يبقى القرار في التسعير رهناً بالظن أو التقدير، بل يستند إلى معادلات محكمة اكتواريًا، وإحصاءات حيّة تُحدّث باستمرار. وعندها يصبح التسعير أشبه بمرآة صافية تعكس صورة السوق كما هي، دون تشويه أو مبالغة، فيتبدّد الغموض، وتترسّخ الثقة، ويغدو النظام برمته أقرب إلى جهاز متكامل يربط الأطراف كافة بتيار واحد من المعلومة الصادقة التي لا تعرف التحريف ولا تتسع للمجاملة.
«وحدة تنظيم التأمين».. رقيب لا مُشغِّل
ومع ذلك، لا بد من الوقوف عند الفارق الذي يجب ألا يلتبس على أحد، وهو أن دور «وحدة تنظيم التأمين» لا ينبغي أن يتجاوز الرقابة والإشراف، فهي ليست تاجراً، بل حارس أمين. إن وظيفتها أن تكون الضامن لسلامة المعادلات التي يُبنى عليها التسعير، والمشرف على نزاهة التدفقات وشفافية البيانات، والرقيب على بوابة وثائق التأمين الإلزامية إلى أنظمة الجهات الحكومية كافة، بحيث يطمئن كل طرف إلى أن ما يجري خلف الأنظمة يتم وفق معايير منضبطة لا تعرف انحرافاً.
ولو أن الوحدة تجاوزت مقامها الطبيعي لتتحول من منظم ورقيب إلى مشغل، لانطفأت جذوة التنافس في السوق، وانمحت الحدود بين الحكم واللاعب، وضاعت حيوية الاقتصاد الحر. أما إذا بقيت حيث يجب أن تبقى: رقيباً يقظاً لا يغفل، ومشرفاً رقمياً شفافاً يصل بين الأطراف من غير أن يتحول إلى طرف، فإنها تمنح السوق زخماً جديداً من الثقة لا يُقدَّر بثمن، وتفتح المجال للشركات كي تتبارى في جودة الخدمة وكفاءة الإدارة، بينما تضمن أن الأساس الذي يُبنى عليه السعر واحد وعادل، قائم على الحقائق لا على الأهواء، وعلى البيانات لا على التخمين.
ثمار الديناميكية المؤتمتة
إنّ تطبيق نظامٍ يقوم على التسعير الديناميكي المركزي لا يقف أثره عند حدود القسط الذي يُدفع في نهاية المطاف، بل يفيض بظلاله على دوائر أوسع تمتد لتشمل المجتمع والدولة والاقتصاد بأسره. فالمجتمع، حين يرى أن التزامه يُكافأ وأن تهوره يُعاقب، يستشعر عدالةً حاضرة في يومه، فتغدو القوانين رقيباً داخلياً يضبط السلوك، ويجد الناس أنفسهم وقد انقادوا إلى الانضباط طوعاً. أما في ساحة القضاء، حيث طالما تراكمت النزاعات التأمينية، فإن هذا النظام يخفف الوطأة عن المحاكم، ويعيد إلى العدالة هدوءها وهيبتها، فلا تضيع الأوقات في خصومات يمكن أن تُحسم بوضوح الأرقام وشفافية البيانات. وشركات التأمين نفسها، وقد كانت من قبل تتأرجح بين أرباح غير مبررة وخسائر غير محتملة، تغدو أكثر استقراراً، إذ تتناسب أقساطها مع المخاطر الحقيقية، فتنأى عن شبح العجز والإفلاس، وتكتسب قدرة أوفى على التخطيط والاستثمار. وعلى المستوى الأوسع، ينهض الاقتصاد الوطني على بيئة أعمال جديدة أكثر رسوخاً في ثقة المستثمرين، إذ يطمئن كل من يلج إلى السوق أن القوانين تُدار بأنظمة مرنة وشفافة، تحمي حقوقه وتوازن بين التزاماته. وأما الدولة، فإنها تجد بين يديها بيانات دقيقة وآنية، فتُعينها على اتخاذ قرارات استراتيجية عميقة الأثر في ميادين المرور والسلامة والتنمية الاقتصادية، وتضمن أن تظل الحركة كلها متوازنة، والعدالة ماثلة، والثقة راسخة لا تهتز.
تثمين الجهود الحكومية
وإذا كان حاضر الكويت يشهد خطوات إصلاحية متسارعة، تتجسد في تشكيل اللجان المتخصصة، وتمرير حزم من التشريعات التي تستهدف معالجة الملفات العالقة وتعبيد الطريق نحو بيئة أعمال أكثر رسوخاً وثقة، فإن هذه الرؤى لا تنفصل بحال من الأحوال عن ذلك المسار، بل تأتي امتداداً له وتعضيداً لمسيرته. فلقد أحسنت وزارة العدل حين أعلنت في أغسطس 2025 عن تشكيل «لجنة تطوير المنظومة التشريعية للتأمين والمسائل القانونية المنبثقة»، إذ وضعت يدها على موضع الداء وفتحت نافذة للتغيير تبعث الحياة في القوانين التي آن لها أن تواكب العصر. إلا أنّ هذه الخطوة، على ما تحمله من وعود وأمل، لن تبلغ ثمرتها الكاملة ما لم تقترن بقدرة حقيقية على إدراك ديناميكية قطاع التأمين، لتتحول العدالة من فكرة مجردة أو شعار يكتب في صدر التشريعات، إلى نظام ديناميكي مؤتمت وشامل ينساب في شرايين السوق، نظام يُترجم القوانين إلى ممارسة حية، ويجعل من كل وثيقة عقداً عادلاً، ولبنةً في صرح الثقة بقطاع التأمين.
إن العدالة في قطاع التأمين لا تعني أن يُعطى الجميع قسطاً واحداً كيفما اتفق، ولا أن تُقاس الأخطار بمعايير جامدة تُلقي بظلالها على المختلفين وكأنهم سواء، بل حقيقتها أن يُحاسب كل فرد وكل مؤسسة على تاريخه الفعلي، وأن يُبنى السعر على بيانات دقيقة، نابضة بالحياة، تتحرك مع حركة الزمن وتُحدّث دوراً بعد دور. وهنا يبرز التسعير الديناميكي المركزي بوصفه التجسيد العملي لهذه الرؤية، فهو ليس مجرد آلية حسابية باردة، بل منظومة متصلة كالشبكة، تتدفق فيها البيانات بانتظام، وتُصاغ الأسعار بميزان قسط لا يميل، وتبقى الوحدة التنظيمية فيها رقيباً نزيهاً يحرص على نزاهة الطريق دون أن يتورط في التجارة أو التنافس، فيما تظل الساحة مفتوحة أمام الشركات لتتنافس في خدمة عملائها وجودة أدائها.
وحين يبلغ المجتمع هذه المرحلة، يصبح التأمين في صميمه وعداً بالطمأنينة لا ينقطع، يُترجم إلى واقع ملموس يقل فيه النزاع، ويزداد فيه الالتزام وتستقيم فيه الموازين بين الحقوق والواجبات، فيشعر المجتمع أن وثيقة التأمين ليست ورقة تحفظها الخزائن، بل عهد حيّ ينبض بالعدالة، يصون المجتمع، ويعمق الثقة بين القطاع والمتعاملين فيه.
فاللهم أبرم لهذه الأمة أمراً رشداً..
عبدالله السلوم