اخبار الكويت
موقع كل يوم -جريدة القبس الإلكتروني
نشر بتاريخ: ١٨ أيلول ٢٠٢٥
في عصرٍ تتسابق فيه الأمم كما تتسابق الرياح في مضامير الفضاء، وتتعانق فيه خيوط التقنية مع تفاصيل الحياة اليومية حتى غدت جزءاً من نسيجها، بات التحول الرقمي في مؤسسات الدولة أشبه بمفتاح لامع يُخيَّل للناظر أنه يفتح أبواب الغد الرحب، ويقود إلى رحابة المستقبل الموعود. غير أنّ البصير المتأمل، إذا ما أعمل نظره وأرهف بصيرته، سيدرك أن الأمر أعقد بكثير من أن يُختزل في استبدال شاشات مضيئة بورقٍ مُكدّس، أو إحلال توقيعٍ إلكتروني بديع مكان ختمٍ أزلي.
لقد لمسنا، نحن الأفراد والمؤسسات على السواء، ما أحدثته التطبيقات الذكية والمواقع الإلكترونية لمؤسسات الدولة من تخفيفٍ لمشقة كانت تثقل كواهل الناس ردحاً من الزمن. فالمعاملة التي كانت تلتهم من أعمارهم الساعات، غدت تُنجَز في دقائق معدودات. والطوابير التي طالما التصقت بجدران المكاتب وعلِقت بالأذهان كذكرى مريرة، انفضّت شيئاً فشيئاً. أما الأوراق الثقيلة التي كانت تُحمل كما تُحمل الأثقال، فقد انزاحت عن أكتاف الموظفين والمتعاملين على حدّ سواء.
ومع ذلك، فإن الصورة، مهما بدا جانبها المضيء باعثاً على التفاؤل، لا تخلو من مناطق ظلٍّ كثيفة. فما زالت ثمة خدمات لم تكتمل، وإجراءات متشابكة استعصت على الرقمنة الشاملة، وخطوات متكررة أعيد إنتاجها بذات العقلية القديمة وإن ارتدت ثوباً جديداً من الأزرار الإلكترونية والواجهات الرقمية. وكأننا لم نُبدّل سوى قشرة بالية، أما اللباب فما زال أسير التقليد وقيود البيروقراطية.
هل أسهمت الرقمنة في ترشيد الإنفاق؟
وإن كان من الإنصاف أن يُقال إن الدولة قد أولت هذا المضمار عنايةً بالغة، وضخت فيه استثمارات جسيمة، فإن من الإنصاف ذاته أن يُطرح السؤال الذي يطرق أبواب العقول: أهذه الأموال المسكوبة في شرايين الرقمنة قد أفضت حقاً إلى ترشيد في الإنفاق، وإلى حسن توظيف للموارد المالية والبشرية على السواء؟ أم أننا، من حيث لا نشعر، قد أسهمنا في تشييد قطاع برمجي يعتاش على العقود الحكومية المتدفقة، ويزداد تضخماً على حساب المال العام، من غير أن يقابل ذلك دائماً عائد حقيقي أو قيمة مضافة تليق بما بُذل من مالٍ كان الأولى أن يُستثمر حيث الحاجة والغاية؟
إنّ ما نشهده اليوم لا يخرج، في وجوه كثيرة، عن صورة أشبه بنظرية التطور؛ خطوات تتعاقب على مهل، لا عن رؤية استراتيجية متكاملة المعالم، بل استجابات متفرقة لحاجات آنية تضطر المؤسسات الحكومية معها إلى التعاقد مع شركات محلية حيناً، أو عالمية حيناً آخر. وهذه الشركات، منطقها منطق السوق، لا تُعنى إلا بما يضمن لها أعظم عائد مالي في أقصر وقت، وبأقل التزامات فنية ممكنة. فتراها تكتفي بإنجاز المطلوب وفق نصوص العقود، ولا تُلقي بالاً إلى عمق الأهداف أو لب الغايات التي لأجلها أُبرمت تلك العقود أصلاً، لتبقى مسؤولية التفكير الأساسي في المعنى والجدوى مرهونة بإرادة الجهاز الحكومي وحده.
ومن هنا تتجلى الصورة البلاغية التي تكاد تختصر المشهد كله: فشركة البرمجيات لا تعدو أن تكون كالطبّاع الماهر، يحسن صفّ الحروف، وينسّق السطور بخطوط أنيقة وألوان متلألئة، وربما أضاف جداول وصوراً تسرّ الناظرين. لكنه، في نهاية المطاف، لا يكتب الفكرة، ولا يصوغ الحكمة، ولا يُبدع الاستنتاج. إنما تلك مهمة صاحب النص، أي المؤسسة الحكومية نفسها. فإن كان النص ضعيفاً في مادته، خالياً من فكر ناضج أو رؤية مستبصرة، فلن تغني زينة الطبّاع ولا زخارفه شيئاً، ولن تحيل الهشاشة قوة، مهما بالغ في الإخراج وجمّل من ظاهر العمل.
الأتمتة في إعادة صياغة مسار العمل
وعليه، يغدو بيّناً لكل متأمل أن التحول الرقمي، بصورته المألوفة التي عرفناها خلال العقدين الماضيين، قد استُنزف مضمونه حتى غدا لفظاً تقليدياً يفتقر إلى الجِدة. ومن ثمّ بات من اللازم، بل من الحتمي، أن نرتقي إلى أفق أسمى وأوسع: أفق الأتمتة. وهذه الأتمتة ليست مجرد تبديل أدواتٍ أو إحلال واجهاتٍ رقمية محلّ أخرى ورقية، وإنما هي إعادة صياغة شاملة لمسار العمل الإداري برمّته. هي فنّ هندسة العمليات من جديد، حيث تُعاد كتابة خريطة دورات البيانات، لتتكامل فيها المعرفة العميقة مع التقنية الحديثة، وتنسجم فيها الموارد البشرية مع القدرات المالية، فتولد منظومة أكثر رشاقة، وأعلى كفاءة، وأقدر على خدمة الرؤية الوطنية الكبرى لا في ظاهرها فحسب، بل في لبّها العميق أيضاً.
ولكي يتضح الفرق بين الرقمنة والأتمتة، فلنستعد مشهداً من مطلع الألفية، حين لجأت بعض الشركات إلى التحقق من هوية المسجِّلين في مواقعها الإلكترونية عبر مكالمات هاتفية يجريها موظف مكلَّف، يتقاضى راتباً ثابتاً لمجرد الاتصال بالرقم المدون في نموذج التسجيل. وكان ذلك يُعد في زمنه صورة من صور الرقمنة، إذ لم يتجاوز استبدال أداة بديلة محدودة الأثر بالورق. أما شركات أخرى أكثر وعياً، فقد أعادت تصميم النموذج ذاته، وربطته بخدمة الرسائل النصية، فيرسل النظام رمز تحقق إلى هاتف المستخدم، فيدخله الأخير في الحقل المخصص، فتتم المصادقة على هويته بصورة آلية كاملة، من غير تدخل بشري. وهكذا، وباستثمار تقني يسير، استطاعت تلك الشركات أن توفّر وظيفة روتينية، أو أن تعيد توجيه جهد الموظف نحو مهام أنفع. هكذا تُرى الأتمتة في بداياتها، أما اليوم فأمسى ذلك المثال واقعاً مألوفاً لا جديد فيه.
ومثال آخر أوثق صلة بواقعنا المعاصر يتمثل في وحدة تنظيم التأمين منذ تأسيسها وصدور قرارها رقم 1 لسنة 2022 المتعلق بآليات استقبال شكاوى عملاء قطاع التأمين عبر نظام «آيروسوفت». إذ بُني هذا النموذج على الأتمتة لا الرقمنة وحدها، فجعل العملاء والشركات المشكو في حقها أمام طاولة حوار رقمية تمتد أربعة عشر يوماً، مقننة بشروط التزام لكل طرف، تحت إشراف الوحدة، يتبادلون خلالها الردود والملاحظات قبل أن تُحال الشكوى إلى اللجنة المختصة. وقد جاءت النتيجة لافتة للنظر، إذ أُقفل ما يقارب ثلاثين في المئة من الشكاوى صلحاً خلال تلك الفترة من دون تدخل مباشر من موظفي الوحدة. وهنا يتجلى معنى الأتمتة الحقّة، حيث تتولى التقنية معالجة ما كان يدار يدوياً وفق الأهواء، فلا تُغيّر الشكل فحسب، بل تُعيد صياغة سير العمل في عمقه، وتخفف الأعباء عن الكوادر البشرية، وتتجنب مخاطر أخطائها.
الأتمتة.. فكر يتطلب تمكين كفاءات مختصة
وإذا كان هذان المثالان شاهدين على ما يمكن أن تحققه الأتمتة حين تُبنى على رؤية واعية ومنهج متكامل، وفق الزمان والبيئة المعرفية، فإنهما في الوقت ذاته يضعاننا أمام حقيقة ساطعة: أن بلوغ هذه الغاية لن يتم عبر استيراد برامج أجنبية أو الارتهان لخدمات سحابية كبرى فحسب؛ فذلك لا يعدو أن يكون كمن يقتني أدوات نفيسة من غير أن يملك الصانع الماهر القادر على تطويعها.
فالأتمتة، في حقيقتها، ليست فعلاً تقنياً فحسب، بل هي فكر استراتيجي ينفخ الروح في التقنية، ويحوّلها من مجرد أداة إلى محرّك للتغيير العميق. والبناء الحق يبدأ من الداخل، من تأسيس قاعدة راسخة من الكفاءات التي تمتلك معاً البصيرة الاستراتيجية والقدرة الرقمية، هي التي تضع اللبنات الأولى للنموذج الجديد، وتُقرِّر بدقة أين تختصر الخطوات، وأين تُلغى المسارات المتكررة، وكيف تُبنى منظومة متكاملة تعكس طموح الدولة ورؤيتها. وليس مكمن التحدي في استقطاب الكفاءات المؤهلة فحسب، بل في إيجاد مناخ مؤسسي داخل الأجهزة الحكومية يُفسح لهم المجال، ويمنحهم سلطان القرار الفني بلا قيود بيروقراطية خانقة. فالعقول إذا استُجلبت ثم قُيِّدت، أو حُصر دورها في إعداد تقارير شكلية تُركن على الرفوف، فلن نحصد من الأتمتة إلا قشرتها، ولن نحصد من التحول إلا صداه البعيد.
الأتمتة.. تحت مظلة نهج الاعتماد الذاتي
ثم إن مقتضيات النجاح الحقيقي تفرض أن تتبنى المؤسسات الحكومية نهج الاعتماد الذاتي في بناء منظوماتها المعنية بالأتمتة، وتطويرها على المدى الطويل، وألا تبقى أسيرة لعقود متجددة مع شركات خارجية تبيعها الحلول ذاتها بثياب مختلفة وبأثمان مضاعفة. فالتطوير، بطبيعته، مسيرة مستمرة لا تعرف الوقوف عند نسخة أولى أو مرحلة بعينها؛ هو أشبه بنهر جارٍ يتطلب صيانةً دائمة لمجراه، وإضافةً متواصلة لروافده. والاستثمار الذاتي المدروس في فرق وطنية متخصصة داخل الجهاز الحكومي سيُفضي، لا محالة، إلى ثمار أجدى وأوفر، وإلى نتائج أعظم مردوداً من الاعتماد المزمن على مقاولين لا يعنيهم من الأمر إلا فاتورة العقد وربح الصفقة.
إنّ التغيير الحق لا يُستجلب من خارج الحدود، بل ينبع من الداخل، من إرادة يقظة تدرك أن الأتمتة ليست مقصداً نهائياً، بل وسيلة رفيعة لتحقيق غايات أبعد وأشمل. هي وسيلة لبناء إدارة أكثر حكمة في إنفاق المال العام، وأكثر جودة في تقديم الخدمة، وأقدر على تعظيم العائد الوطني ليصب في مصلحة الدولة والمجتمع معاً. فإذا ما وعت مؤسساتنا هذا المعنى، وأعادت النظر في فلسفة التحول من جذورها لا من ظاهرها، فإننا سنكون على موعد مع مرحلة جديدة تُشيّد فيها اللبنات على أسس راسخة لا تكتفي بطلاء جدار قديم بلون جديد، بل تبني صرحاً حديثاً متكاملاً يُبقي على الديمومة.
ختاما، يحق لنا أن نتأمل: إن الرقمنة ليست إلا باباً مزيّناً، يُغرينا شكله لكن يظل محدود الأفق، أما الأتمتة فهي البيت بأسره، بما فيه من أركان راسخة وسقف يؤوي الجميع. فهل نرضى بأن نقف عند العتبة متأملين الزخارف، أم نمضي بعزم وحزم إلى تشييد البيت الذي يحفظ مواردنا، ويصون طاقاتنا، ويحتضن رؤيتنا الوطنية الشاملة؟ ذلك هو السؤال الذي يجب أن يطرق أبواب عقول الساسة وصنّاع القرار، قبل أن يُشغلهم بريق العقود أو زخرف الألوان الإلكترونية.
فاللهم أبرم لهذه الأمة أمرًا رشدًا..
عبدالله السلوم