اخبار العراق
موقع كل يوم -اندبندنت عربية
نشر بتاريخ: ٧ تشرين الثاني ٢٠٢٥
تراجع النفوذ الإيراني بالمنطقة سيدفع صانعي القرار في طهران إلى محاولة التعويض بتوسيع نفوذ الحلفاء
مع اقتراب موعد الانتخابات التشريعية في العراق، والمزمع عقدها في الـ11 من نوفمبر (تشرين الثاني) الجاري، تتكثف مظاهر استنفار الميليشيات الموالية لإيران في البلاد، في مشهد يعيد طرح التساؤلات حول العلاقة الملتبسة بين صندوق الاقتراع والسلطة، وما إذا كانت البنادق هي المسيطرة الحقيقية على مجمل الحراك السياسي في العراق، خصوصاً بعد تجربة انتخابات عام 2021، التي أفضت إلى خسارة الميليشيات، لكنها تمكنت، على رغم ذلك، من تشكيل الحكومة بعدما دفعت التيار الصدري الفائر في الانتخابات للتخلي عن مقاعده والانسحاب. وبينما ترى الفصائل المسلحة أن المشاركة السياسية تمثل امتداداً لما تطلق عليه بـ'حق المقاومة' تتصاعد المخاوف من تكرار التجربة ذاتها التي تفرغ الديمقراطية من معناها، وتحيل الانتخابات إلى سباق غير متكافئ تدار فيه السياسة بأدوات القوة المسلحة.
تخوض الفصائل المسلحة انتخابات عام 2025 وهي في ذروة التوتر السياسي، مدفوعة بقلق من الضغوط الأميركية المتصاعدة وتراجع الرعاية الإيرانية التقليدية، فهذه الانتخابات تحديداً تجرى في ظرف إقليمي استثنائي، يشهد فيه النفوذ الإيراني تراجعاً ملحوظاً في أكثر من ساحة، فضلاً عن انكماش أدواته التقليدية في الإقليم، مما ينعكس بصورة واضحة على أذرعه السياسية والعسكرية في العراق. ومع تزايد الإشارات إلى انكفاء مشروع طهران الإقليمي، وتنامي دور الولايات المتحدة في العراق خلال الأشهر الماضية، وصولاً إلى تعيين مبعوث أميركي جديد، ترفع سقف التهديد العلني إلى حد الحديث عن إنهاء وجود الجماعات المسلحة في مؤسسات الدولة، ويبدو أن الفصائل تتعامل مع هذه الانتخابات باعتبارها أهم معركة وجود بالنسبة إليها.
تكشف البيانات الأخيرة الصادرة عن ميليشيات 'كتائب حزب الله'، أبرز الجماعات المسلحة الموالية لإيران في العراق، وقياداتها البارزة، كأبي علي العسكري وأبي حسين الحميداوي، عن حجم الاستنفار الذي تعيشه أجواء هذه الجماعات قبيل انطلاق الانتخابات التشريعية، إذ تستحضر خطاباتهم الحديث عن الخطر الوجودي، فضلاً عن تعاملهم مع السلاح بوصفه الضامن الوحيد لاستقرار الدولة وحماية الهوية المذهبية. وفي بيانه الأخير، قدم الناطق العسكري باسم الميليشيات، أبو علي العسكري، خطاباً يستحضر حقبة الرئيس الراحل صدام حسين لتخويف الجمهور من أي تغيير خارج عباءة الفصائل، وأشار إلى أن 'هذه الانتخابات تمثل تحدياً كبيراً يحدد وضع العراق لعقدين من الزمن'.
أما الأمين العام للكتائب، أبو حسين الحميداوي، فقدم سرداً زمنياً لتاريخ ما بعد عام 2003 ليخلص إلى أن 'القرار العراقي عاد بيد أبنائه' بفضل 'الإطار التنسيقي والمقاومة والحشد الشعبي'. وفي ثاني بيان تصدره الميليشيات المسلحة خلال أيام قليلة، يحث على المشاركة الواسعة في الانتخابات، شدد الحميداوي على ضرورة 'توحيد الصف الشيعي وتجنب التخوين والتجريح بين المتنافسين'، وحذر من 'مخططات دولية وإقليمية' تستهدف وحدة البلاد واستقرارها، مؤكداً أن الحكومة القادمة ستتشكل ضمن نطاق 'الإطار التنسيقي' وبدعم من 'المقاومة الإسلامية وأبناء الشعب الغيارى'.
ويرى مراقبون أن هذا الخطاب يحول المشاركة الانتخابية إلى واجب عقائدي لا ممارسة ديمقراطية، ويضفي على صناديق الاقتراع 'بعداً تعبوياً' يجعل التصويت في مناطق نفوذ الفصائل 'عملاً شرعياً'، وهو ما يثير قلق كثير من الباحثين من احتمال تكرار الميليشيات سيناريو انتخابات عام 2021 في حال خسارتها. وتحاول الميليشيات إعادة إنتاج روايتها الدائمة حول 'الخطر الذي يهدد المذهب' التي تعد بحسب مراقبين، الوسيلة التي كثيراً ما اعتمدتها تلك الجماعات في تبرير استمرار السلاح خارج سلطة الدولة.
في السياق قال مدير منطقة الشرق الأوسط في مؤسسة 'غالوب الدولية' منقذ داغر إن 'الانتقال الذي نشهده اليوم في سلوك الفصائل ليس جديداً، فمنذ انتخابات عام 2018 بدأت الجماعات المسلحة بتأسيس أجنحة سياسية تسعى من خلالها إلى ممارسة السلطة، واضعة في حساباتها المستقبلية أن يكون لها وجود راسخ داخل مؤسسات الدولة'، وأضاف أن 'هذا التحول في بنية النظام السياسي يعد تهديداً مباشراً للديمقراطية إذا استمرت هذه الفصائل في الاحتفاظ بقوتها العسكرية ولم تخضع لسلطة الدولة وحلها'، مبيناً أن 'بقاء السلاح خارج إطار الدولة يعني استمرار الخلل في توازن السلطة وانحراف المسار الديمقراطي'، ولفت إلى أن تراجع النفوذ الإيراني النسبي في المنطقة سيدفع صانعي القرار في طهران إلى 'محاولة تعويض ذلك بتوسيع نفوذ حلفائهم في البرلمان العراقي المقبل'، خصوصاً في ظل المقاطعة الشعبية المتوقعة، لافتاً إلى أن تلك المقاطعة 'ستمنح هذه الجماعات مساحة أكبر داخل العملية السياسية'، وتابع 'بالإمكان تكرار سيناريو عام 2021 إذا تحالف السوداني (رئيس الوزراء محمد شياع السوداني) مع الأكراد والسنة بعيداً من الإطار التنسيقي، خصوصاً أن من المتوقع حصول السوداني على عدد مقاعد يوازي ما حصل عليه التيار الصدري خلال الانتخابات السابقة'، مشيراً إلى أن إيران والفصائل المسلحة 'سيستخدمان كل أدوات الضغط لمنع ذلك'، وقال أيضاً 'طهران لم تعد تمتلك القدرة ذاتها على التأثير في الداخل العراقي كما كانت في السابق، وبعض الجماعات المقربة منها بدأ يدرك ضرورة فتح قنوات تواصل مختلفة وربما النظر إلى الولايات المتحدة كعامل توازن محتمل'.
في المقابل، رأى الباحث والصحافي مصطفى ناصر أن الحديث عن انتقال تأثير السلاح من الميدان إلى ساحة الانتخابات 'توصيف سطحي'، لأن الفصائل الموالية لإيران 'شاركت في كل الدورات منذ عام 2006، بل حتى قبل دمج الميليشيات في ذلك الحين'، وأضاف أن 'إطلاق مثل هذه المفاهيم لا يعدو كونه استهلاكاً إعلامياً ومحاولة للالتفاف على الدستور الذي يمنع تسجيل أي حزب يمتلك جناحاً مسلحاً، بينما تواصل هذه الجماعات التحايل بتأسيس واجهات سياسية بأسماء مختلفة عن تشكيلاتها الأصلية'، وأكد أن 'الحديث عن أن تراجع النفوذ الإيراني وصعود الدور الأميركي ما زاد استنفار الفصائل غير دقيق، لأن استعداد هذه القوى للانتخابات بدأ قبل أحداث أكتوبر (تشرين الأول) الأخيرة، وقبل الهجوم الإسرائيلي على إيران'، مضيفاً أن 'بعض الأطراف كان يخطط منذ أشهر للسيطرة على مفوضية الانتخابات ومجلس القضاء لضمان نتائجه'.
يتفق المتخصصون على أن احتمال تكرار سيناريو ما بعد انتخابات عام 2021 قائم بقوة، خصوصاً مع احتمال تفكك 'الإطار التنسيقي للقوى الشيعية' مدفوعاً برغبة رئيس الحكومة الحالي محمد شياع السوداني الحصول على ولاية ثانية. ولفت ناصر إلى أن 'البلاد قد تدخل نفقاً من الاتفاقات المعقدة التي تترافق مع ضغط مسلح أو تدخل خارجي'، محذراً من أن 'أي تصعيد جديد قد يمنح إسرائيل ذريعة للهجوم على بعض الفصائل، ويفتح الباب أمام ضغط أميركي لتقليم النفوذ الإيراني في مؤسسات الدولة التنفيذية والتشريعية والقضائية'.
في المقابل رأى المتخصص في مجال العلوم السياسية هيثم الهيتي أن السلاح في العراق 'لم يعد أداة للقتال بقدر ما أصبح وسيلة لبناء نخبة سياسية تحتمي به'، مبيناً أن 'التهديد المسلح أصبح بحد ذاته أداة ردع تمنع المشاركة السياسية الحرة، إذ لا حاجة إلى استخدام السلاح في يوم الاقتراع، فمجرد وجوده يثني المواطنين عن التغيير'، وأشار الهيتي إلى أن الميليشيات تسعى تدريجاً 'إلى التحول من قوة عسكرية إلى نخبة حاكمة تسيطر على رئاسة الوزراء والبرلمان والجمهورية، كما حدث في تجارب تاريخية بالشرق الأوسط، حين تحولت أجهزة الحزب أو الحرس إلى مؤسسات أمنية ودولة موازية'، لكن الهيتي قال إن التحولات الخارجية الأخيرة ربما 'تضغط باتجاه تقليص نفوذ الميليشيات'، مبيناً أن رفض واشنطن لها واشتراطات إنهاء وجودها قد يؤديان إلى 'عدم قدرتها على التحرك عسكرياً لتغيير المعادلات لصالحها'، ولفت إلى أن جملة الضغوط تلك 'قد تفضي إلى نوع من التسوية أو التحول داخل الإطار التنسيقي نفسه'، مبيناً أن ثمة احتمالاً بحصول ما يشبه 'الانقلاب داخل القصر في حال تمكن رئيس الوزراء الحالي من فرض توازن جديد يحد من نفوذ الجماعات المسلحة'.
في موازاة المخاوف الأمنية والسياسية، يبرز مسار قانوني في محافظة النجف، حيث تحركت مجموعة حقوقية لرفع دعوى قضائية تهدف إلى استبعاد الأحزاب المرتبطة بفصائل مسلحة من خوض الانتخابات، وفق ما ينص عليه قانون الأحزاب في البلاد. وعلى رغم رمزية الخطوة وإدراك العراقيين عدم قدرتها على تحقيق تقدم في إبعاد الجماعات المسلحة عن الانتخابات، فإنها تعكس حجم شعور متنامٍ في الداخل العراقي من ضرورة تطبيق القانون بما يضمن عدالة الانتخابات وعدم السماح للسلاح بالتأثير في نتائجها. وعلى رغم كل ذلك، نجحت الفصائل عبر أعوام في الالتفاف على النصوص القانونية والدستورية، من خلال تسجيل كيانات سياسية بأسماء مختلفة عن أجنحتها العسكرية، أو عبر واجهات 'موازية' يتقدم من خلالها مرشحو تلك الميليشيات، مما يتيح لهم التنافس من دون أن يحملوا صفتهم المسلحة بصورة مباشرة.
ويقول نشطاء النجف إن هذا الفصل الشكلي لا يلغي حقيقة أن من يحمل السلاح ويملك القدرة على الضغط الميداني يمتلك أفضلية غير عادلة داخل العملية السياسية. ورفع الناشطون ضمن 'تجمع الاستقلال' دعوى أمام مفوضية الانتخابات ودائرة الأحزاب والتنظيمات السياسية لـ'حل الأحزاب المسلحة وحماية الديمقراطية'، مطالبين باستبعاد هذه الأحزاب باعتبارها 'كيانات غير مؤهلة ديمقراطياً'، مستندين إلى المادة التاسعة من الدستور العراقي التي تحظر تكوين ميليشيات خارج إطار القوات المسلحة، فضلاً عن المادة الثامنة من قانون الأحزاب التي تنص على ألا يرتبط أي حزب بأي قوة مسلحة، لكن حتى اللحظة، ومع بقاء أربعة أيام فقط على موعد الاقتراع، لم تحسم الدعوى ولم يسجل أي توجه رسمي واضح نحو اتخاذ إجراءات. ويرى حقوقيون أن التأخر في الحسم يجعل المسار القانوني أقرب إلى موقف احتجاجي أخلاقي منه إلى إجراءات قابلة للتنفيذ في هذه الدورة، إلا أنه يحمل رسالة سياسية وقانونية قد تتراكم لاحقاً ضمن سياق أوسع لمساءلة بنية النظام السياسي في العراق.
ويبدو أن صراع الانتخابات المقبلة يتجاوز مجرد التنافس على مقاعد البرلمان إلى معركة أعمق تتعلق بصورة النظام السياسي ومستقبل التوازنات في البلاد، وبينما يحاول الشارع والقوى المدنية الدفاع عما تبقى من روح الديمقراطية، تواصل الفصائل استخدام أدوات الترهيب والتعبئة العقائدية لضمان نفوذها، إلا أن التحولات الإقليمية والدولية قد تفرض واقعاً جديداً يحد من نفوذها خلال المرحلة المقبلة.






































