اخبار العراق
موقع كل يوم -سي ان ان عربي
نشر بتاريخ: ٢٠ أيلول ٢٠٢٥
دبي، الإمارات العربية المتحدة (CNN) -- تتدلى الشمس بثقل فوق وسط العراق مع اقتراب غروب الشمس، وتغمر أطلال بابل بالحرارة والضوء. ويتصاعد الغبار من الأرض في سحب ناعمة، حاملاً رائحة خفيفة تبدو أقدم من الزمن.
في هذه اللحظة، تبدو المدينة خالية وأبدية في آنٍ واحد، لا يقطع صمتها سوى وقع خطوات قلة من المسافرين الذين جاؤوا ليقفوا عند آثار أقدام الملوك.
كانت بابل ذات يوم جوهرة بلاد ما بين النهرين، المدينة التي أعطت اسمها لعصورٍ بأكملها. هنا حكم نبوخذ نصر الثاني، وهنا شُيّدت المعابد والقصور الضخمة، وهنا تخيّل الشعراء والمؤرخون واحدة من عجائب الدنيا السبع في العالم القديم، أي حدائق بابل المعلّقة.
اليوم، رغم إدراجها كموقع تراث عالمي من قِبل اليونسكو، لا تزال بابل مهددة، تستقر في توازن هش بين العظمة والاندثار.
أن تمشي في بابل هو أن تسير عبر طبقات من الأسطورة والذاكرة. وأول ما يراه الكثير من الزوار هو بوابة عشتار المعاد بناؤها، بسطحها الأزرق العميق الذي كان يومًا مزينًا بالأسود والتنانين البارزة بالذهب. وتمتد خلفها طريق المواكب، وهو طريق احتفالي كان يستخدم في المهرجانات الملكية مثل عيد رأس السنة البابلية، الأكيتو، الذي يُقال إنه أحد أقدم الاحتفالات في العالم.
هنا، وضع نبوخذ نصر الثاني، الذي حكم من 605 إلى 562 قبل الميلاد، بصمته في سجل التاريخ. وبنى قصورًا ومعابد ضخمة، ووسّع دفاعات المدينة، وترك نقوشًا لا تزال تشهد على قوّته. وكانت زقّورة 'إيتيمينانكي' الضخمة تهيمن يومًا على أفق المدينة.
ثم هناك حدائق بابل المعلّقة. وقد صفها الكتّاب اليونانيون والرومان القدماء بأنها فردوس غنّاء من الخضرة المصنّفة على مدرجات، وتُروى بمضخات بارعة ترفع الماء من نهر الفرات. وطبقا للأسطورة، فقد أمر نبوخذ نصر ببنائها لزوجته الملكة أميتيس، التي كانت تشتاق إلى جبال وطنها المكسوّة بالغابات.
'لقد انتظرت طوال حياتي'
وبالنسبة للباحث الآثاري العراقي عامر عبد الرزاق، فإنّ الحدائق أكثر من مجرد أسطورة. يقول لـCNN: 'أؤكد أن حدائق بابل المعلقة كانت موجودة'، مضيفًا: 'إنها واقع يجسّد الجمال والعظمة والإبداع لدى المهندس والفنان في حضارة بلاد الرافدين، والمهندس البابلي، وعظمة الملك والحكم في بابل'.
ويعتقد عبد الرزاق أن الحدائق كانت تقع في ما يُعرف اليوم بموقع أثري واسع على ضفاف نهر الفرات، قرب مدينة الحلّة، على بُعد نحو ساعتين بالسيارة جنوب بغداد.
في المقابل، يشير آخرون إلى نينوى، الواقعة على بُعد مئات الأميال شمالًا، كموقع محتمل، لكن بالنسبة للمسافرين الذين يصلون إلى بابل، فإن هذا الجدل غير مهم جدًا. فالوقوف وسط الأطلال كافٍ لتخيّل مدرجات تتدلّى منها الكروم، وشلالات تنساب على الأعمدة الحجرية، وهمسات الحياة في مدينة بلغت ذروة مجدها.
ورغم سنوات الصراع وعدم الاستقرار في العراق، لا تزال بابل تجذب المسافرين من الخارج بأعداد تتزايد بشكل مطّرد، لكنها لا تزال بعيدة عن الحشود التي كانت تزورها قبل عقود.
ففي العام 2024، شهد الموقع زيارة 49,629 شخصًا، من بينهم 5,370 أجنبيًا، بحسب مديرية الآثار والتراث في بابل.
في ظهيرة أحد أيام الصيف أخيرًا، كان يمكن رؤية ثلاثة زوار يتجولون في طرقاتها. من بينهم جيانماريا فيرغاني، البالغ من العمر 35 عامًا من ميلانو، والذي بدأ ولعه بحدائق بابل المعلّقة منذ طفولته. وقال لـCNN: 'لقد انتظرت طوال حياتي لأقف هنا'.
وأمضى فيرغاني أشهرًا في التحضير، يتأمل الخرائط ويقرأ في كتب التاريخ قبل أن يسافر إلى بغداد. شملت رحلته زيارة 'طاق كسرى'، أي القوس العظيم في مدينة قطسيفون الذي يعود إلى ألفي عام، في جنوب غرب العاصمة العراقية، قبل أن يتجه جنوبًا نحو بابل، عازمًا على رؤية الأطلال.
وقال: 'عندما رأيت بوابة عشتار في بداية الجولة، غمرني شعور لا يوصف'. وأضاف: 'من غير المعقول أن نفكر أن أناسًا ساروا في هذه الطرق ذاتها قبل آلاف السنين. عندما وصلت إلى الموقع، شعرت وكأن حلمي قد تحقق أخيرًا'.
ويعكس شغفه العميق مشاعر كثيرين ممّن يقومون بهذه الرحلة. فبابل ليست وجهة للسياحة العادية؛ إنها فرصة للدخول إلى القصص التي شكّلت الحضارات.
ومع ذلك، فإن بابل موقع يعاني من الإهمال. فالطريق المؤدي إلى المدينة القديمة يوحي بالتباين الواضح. ويعد الطريق الرئيسي المحيط بالأطلال في حالة مقبولة، لكن الشوارع المؤدية إليه مليئة بالحفر والتشققات. أما داخل الموقع، تغزو الأعشاب الضارة المسارات، والنباتات المهملة تنبت من بين الشقوق، وتتناثر النفايات بين الحجارة. تنتشر أعقاب السجائر والزجاجات البلاستيكية في الساحات التي كان الملوك يستقبلون فيها السفراء الأجانب ذات يوم.
كما أن المرافق نادرة. وتوجد دورات مياه، لكنها لا تظهر إلا بعد كشك التذاكر قرب بوابة عشتار. ولا يوجد فندق قريب، ما يضطر الزوار إلى العودة لمساكن بعيدة بعد الانتهاء من زيارتهم. أما اللافتات التوجيهية فهي شبه معدومة؛ ونت دون دليل، يمكن للزائر أن يتوه بسهولة بين الجدران والغرف.
ويبذل المرشدون المحليون قصارى جهدهم لحماية الضيوف من خيبة الأمل، فيقودونهم عبر مسارات أنظف ويعرضون الأطلال بأفضل صورة ممكنة. لكن بالنسبة للمسافرين المستقلين، فإن الإهمال واضح. المدينة تبدو وكأنها بحاجة ماسّة إلى التنظيف والعناية.
ويعترف رائد حامد عبد الله، رئيس مديرية الآثار والتراث في بابل التابعة لوزارة الثقافة، بحجم التحدي:'يضم الموقع الأثري بأكمله أربعة عمّال تنظيف فقط'، لافتًا إلى أنه 'أحيانًا أطلب من الحراس أن يساعدوا في التنظيف. هذه جهود فردية نبذلها بدافع حبنا للمدينة. ونأمل أن تخصص الحكومة العراقية ميزانية كافية للعناية ببابل'.
حتى الآن، لا يزال الدعم الحقيقي لصيانة الموقع اليومية محدودًا. توفّر السلطات المحلية أعمال صيانة متفرقة، لكن مشاريع التطوير الأوسع، من مرافق الزوّار إلى أعمال الحفظ المناسبة، لا تزال عالقة وسط عراقيل قانونية وسياسية.
وندوب بابل لم تكن بفعل الزمن وحده، إذ أعادت الأنظمة والجيوش الحديثة تشكيل أطلالها مرارًا.
وفي ثمانينيات القرن الماضي، بدأ الرئيس العراقي الراحل صدام حسين مشروع إعادة إعمار طموح لبابل. وأُعيد بناء جدران كاملة باستخدام طوب جديد يحمل اسمه مختومًا عليه. وارتفع قصر ضخم قرب الموقع، تطل شرفاته على الأطلال في استعراض للقوة أكثر من كونه محاولة للحفاظ على التراث.
وبعد الغزو الذي قادته الولايات المتحدة العام 2003، أنشأت القوات الأمريكية قاعدة في بابل، وحوّلت قصر صدام إلى مقرّ لها. كانت المروحيات تهبط مباشرة على الموقع الأثري، والدبابات تدوس الأرض الهشة، بينما خطّ الجنود شعاراتهم على جدران القصر الداخلية. تحوّلت بابل، التي كانت يومًا رمزًا للقوة والمجد، إلى خسارة جانبية في صراعات الهيمنة الحديثة.
وعندما أدرجت اليونسكو بابل على قائمة التراث العالمي في يوليو/تموز العام 2019، اعتُبر ذلك نصرًا كبيرًا للعراق، وتتويجًا لعقود من الجهود والمساعي. لكن هذا الاعتراف وحده لم يكن كافيًا لضمان الحفاظ على الموقع. فالتمويل لا يزال محدودًا، وخطط التطوير متوقفة، ويعتمد الموقع بشكل كبير على تفاني القائمين عليه من أبناء المنطقة.
أن تتجول في بابل هو أن تعيش التناقضات. ويكشف القصر الجنوبي عن جدران نُقشت عليها كتابات نبوخذ نصر إلى جانب نقوش صدام حسين. ولا يزال الأسد البابلي الشهير جاثمًا في تحدٍ صامت، رغم أن الأعشاب تتسلّق قاعدته. أما بوابة عشتار الأصلية، التي فُككت في أوائل القرن العشرين، فتقبع على بُعد آلاف الأميال في متحف بيرغامون ببرلين، تاركةً الزوّار هنا أمام نسخة جزئية معاد بناؤها يملؤها الإعجاب والدهشة.